شهدت الساحة السعودية خلال السنوات العشر الأخيرة حِراكاً فكرياً وثقافياً واجتماعياً أخذ حظه في التوسع والامتداد الأفقي والعمودي ليشمل كافة التيارات على الساحة بكل شرائحها الاجتماعية والفكرية بفعل ثورة الجياع نحو الإعلام الفضائي والمعلومات الإلكترونية المتدفقة والاتصالات اللامحدودة, فنهم الجموع منها بغير وعي صحي للوصول إلى حالة الشبع المفرط لتناسي السنوات العجاف من القحط الفكري والاحتكار المعرفي والوصاية على السوق الفضائي. ومازالت سكرة النهم مسيطرة على الكثير من أفراد المجتمع، وأعتقد أن صحوةً للعقل والإدراك سوف تفجأنا بآثار وخيمة لهذا الانكسار الشبق لأبواب الثوابت الدينية والمبادئ الخلقية والاجتماعية..
والساحة الإسلامية لم تكن بمنأى عن هذا التأثر؛ بل عصفت بها الرياح وألقتها عولمة الانفتاح متكشفة أمام ساحات النقد ومحاكم الاتهام.. ومع تطور الأحداث في أفغانستان والعراق ومطالبات دعاة الإصلاح ودعاوى تجديد الخطاب الإسلامي، تمايزت التيارات الإسلامية بشكل أكثر، وعرف المجتمع التباين الفكري بين أطيافها المختلفة، واشترك الكل بالنقد والتقويم على اختلاف الدوافع السلبية أو الإيجابية..
والفكر الصحوي في مسيرته الماضية لم يكن بمنأى عن هذا التأثر؛ بل عصفت به الرياح وألقته عولمة الانفتاح متكشفاً أمام ساحات النقد ومحاكم الاتهام؛ فبدأ يلتفت إلى نفسه ويصحح مساره وفق التغيرات الكبيرة التي طرأت على المجتمع في السنوات الأخيرة، و الأزمات الحضارية التي لم يلقِ لها بالاً.. فلم يعد نقد الصحوة يأتيها من اللادينيين أو العلمانيين كما كان يُطلق عليهم في السابق- بل امتهن نقدها الصديق المحب قبل العدو المتربّص, وهذا النقد لو أُحسن استغلاله فسيوفر لها رصيداً هائلاً من المخارج والحلول.. فالصحوة الإسلامية قبل أزمتها الراهنة كانت بحاجة إلى صحوة تقويميّة؛ لأن الجموع الكثيرة والمشاريع الكبيرة لم تعط الوقت الكافي للمحاسبة والمراجعة والتصحيح, لأن شهود اللحظة الحاضرة لجموع المستمعين وهتافات المتحمسين أنست الماضي المحمَّل بأخطائه، وأغفلت المستقبل المثقل بمفاجآته..
إن هذه الحالة ليست بدعاً من حالات الصعود والهبوط والصحة والمرض والنمو والذبول التي مرّت وتمرّ على كثير من دعوات التغيير والإصلاح في أي مجتمع كان؛ وذلك لنموها في النسيج العام للأفكار والفلسفات الإنسانية الخاضعة لأنماط التغيّر البشري..
فالنضج والخبرة والأزمات الواقعة والتحديات المختلفة والتعامل مع الجماهير والسلطات المختلفة كلها محكّات حقيقية وامتحانات صعبة لكل فكر إصلاحي.. وبإعمال بسيط للفكر والذاكرة نجد في التاريخ القديم والحديث نماذج عديدة قد فشلت أو نجحت في هذه التحديات.. فالتاريخ في كثير من مجرياته يعيد نفسه؛ لأن مساره محكوم ضمن تلك النواميس الكونية للأنفس والمجتمعات..
فالحالة الإسلامية وفق المتغيرات الحالية لا تخرج عن كونها ظاهرة صحية تمثل مرحلة من مراحل النمو الفكري والعمري الأشبه- إلى حد كبير- بنمو الفرد الإنساني ودورته المتقلبة في الحياة .. وأعتقد أن الضمانة لتجاوز هذه المرحلة من دون اضطرابات أو معوقات لا يتمّ بشكله الصحيح إلا بالتزام أدب الخلاف وقبول التعدّدية المذهبية والفكرية، وعدم حصر الحق في رؤية أحادية، وضرورة التنوع والتكامل في البرامج الإصلاحية والغايات الحضارية.. وما لم نسع إلى خطاب واعٍ ومنهجية جديدة للتعامل مع هذه المتغيرات؛ وإلا كانت النتيجة المزيد من التشظّي، والافتراق المحموم، وتسلط قوانين الغاب، و عودة التطرف و الدوغمائية بكل اتجاهاتها المتعاكسة..
إن المرحلة الراهنة التي يمر بها التيار الصحوي لا ينبغي أن تمرّ من غير مراجعات في الفكر والمنهج وشفافيّة في النقد والتصحيح، وأرى أن أهم القضايا التي ينبغي التفكير فيها وقيام المراجعات حولها:
البناء العلمي للدعاة والتأصيل الشرعي للفقه الدعوي من خلال تعميق فقه وأدب الخلاف والنظر إلى مقاصد الشريعة ومحاولة تنزيلها على الواقع الصحوي بكل أطيافه التي إن وعت ذلك شكّلت هالة من الجمال والضياء.
ب- الاندماج البنّاء والإيجابي مع شرائح المجتمع، وتغير ثقافة المفاصلة أو التميّز الديني بين أفراده (هذا ملتزم وهذا غير ملتزم) بالتأكيد على أولوية صلاح الباطن قبل الظاهر وتعميم مفهوم الأخوة الإسلامية لكل المسلمين لا خاصتهم.
ج- ترسيخ مفهوم التديّن الشامل الذي لا يغفل القيم الحضارية والتقنيات المدنية ولا يصادم نواميس التقدم العمراني، ولا أعني أن يُحصر ذلك في استخدام وسائل الاتصال الحديثة أو برامج الحاسب المتطوّرة، بل أقصد أن تكون هناك مشاريع تنموية ترفع سقف الوعي الحضاري، وتبني أساسات المجتمع المدني المعاصر قبل مفاجآت العولمة وصدمات الانبهار بالعالم حولنا.
إن الصحوة الإسلامية أمام تحديات كبيرة تجاوزت مهمة إيقاظ النائمين أو الغافلين إلى دور حضاري يعيد مشروع الإسلام كنبض للحياة والأحياء.