مر شهر رمضان مروراً سريعاً ، وكأنه خجل من المسلمين لا يرغب في المكوث بينهم ، لما رأى من سؤ حالهم ، وتشتت قلوبهم ، وتعارض مصالحهم ، وصراعهم على متاع دنيا زائلة ، وتمزق أوصال جسدهم الواحد ؛ الذي لم يعد فيه عضو يشعر بالآخر ولو بتر منه، أو مزقته سهام الأعداء ، ونخلته قذائفهم .
اليهود يجرفون كل شيء في أرض فلسطين : الأرواح ، والبيوت ، والأشجار . كل شيء عندهم سواء ، المهم أن تسوى لهم الأرض وتهيأ لينعموا بها ، ولا يعنيهم ما سوى ذلك؛ فالعالم كله بالنسبة إليهم لا أحد ، لا شيء .
والأمريكيون حولوا أرض العراق إلى ميدان مسرحيات عسكرية ، وتمثيليات إبادة جماعية ، وحقل تجارب ، بعد ما فتحوا حدود البلد المسكين لتجار السلاح ، وسماسرة القتل ، وجماعات المرتزقة ، وقد صمت آذانهم عن سماع أي صوت سوى صوت كبريائهم ، وعجرفة جنون عظمتهم ؛ فالعالم بالنسبة إليهم لا أحد ، لا شيء .
أما أفغانستان فقد أصبحت نسياً منسياً ، لأن جراح أمة الإسلام قد تكاثرت واتسعت ، وبات من الصعب حصرها أو علاجها ، بعد ما صار كل جرح جديد ينسى ما قبله من الجراح، حتى صدق عليهم قول المتنبي :
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء مـن نبـال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصـال
وهان فما أبالي بالرزايـا لأني ما انتفعت بأن أبالـــي
مأساة أن تفقد جموع المسلمين اهتمامها الحقيقي بقضايا أمتها ، وبالعمل الجاد الصادق في البحث عن حلول ناجعة لمشكلاتها ، وعلاجات حقيقية لأوضاعها ، وتضيع أوقاتها في مطاردة السراب على أعتاب البيت الأبيض .
مر شهر رمضان المبارك سريعاً حزيناً ، وجموع المسلمين متسمرة أمام شاشات التلفزة ، تطارد الفضائيات بحثاً عن مسلسل ، أو مسابقة ، أو كلام لا جدوى منه .
لقد تصادف أن جاء وقت الانتخابات الأمريكية في النصف الأخير من شهر رمضان ، وبدايات العشر الأواخر منه ، لتشغل المسلمين بهم جديد : من يكسب قصب السبق ويكون سيد البيت الأبيض ، ومن ثم يحكم العالم من خلاله ؟ حبس الناس أنفاسهم ، وتعلقت أبصارهم بشاشات التلفزة ومتابعة وكالات الأنباء . وتوقف كل شيء ... أجل كل شيء . البعض راهن على جورج بوش ، والبعض الآخر على جون كيري . شغل الناس بالتوقعات ، والتحليلات . برامج مكثفة ، ولقاءات ، ومقالات ، وكلام كثير كثير ، وكأن مصير العالم قد توقف على من يكون الرئيس ، الذي بيده العقد والحل ، وتسيير شؤون العالم . وكأن الرئيس الأمريكي سيكون هو الإله المعبود ، أو الرب الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء وأمره كن فيكون .
العالم كله ـ وعلى الأخص العربي والإسلامي منه ـ قد شغل بسباق الرئاسة الأمريكية ، وعلقوا مصيرهم بالرئيس المرتقب ، وكأن حل جميع مشكلاتهم بيده : قضية فلسطين ، ومأساة العراق ، وعذابات أفغانستان ، وغيرها كثير من الجراح التي افتعلها البيت الأبيض في جسد الأمة ، وتركها تئن وينهش بعضها بعضاً .
دولة واحدة وحكومة واحدة لم تعنها هذه القضية ، ولم تشغلها عن اهتماماتها الحقيقية، وشؤونها الخاصة ؛ إنها حكومة إسرائيل . أجل إنها لا تهتم لأحد ، ولا تتودد لأحد ، ولا يعنيها من يكون سيد البيت الأبيض ، لأنها تعلم جيداً أنها في النهايـة سيـدة البيت الأبيض ـ وغيره من البيوت ـ ومن فيه، وأن الطريق إليه مبدأه ومنتهاه يمر عبر رضاها والتودد إليها . أليس ملفتاً للنظر تودد كل رؤساء أمريكا إليها ، وتسابقهم على إبداء فروض الولاء والطاعة ، وتقديم قرابين الوفاء والخضوع ، ولو كان الثمن العالم بكل ما فيه من قيم ومبادئ وأخلاقيات ومثل ؛ بل وبشر ؟!
إن هذه المسألة من الوضوح والإلفة بحيث لم تعد تلفت نظر أحد إليها .
مساكين هم العرب والمسلمون عندما علقوا مصيرهم ومصير أمتهم بيد رجل يقطن البيت الأبيض ، ونسو أن الأمر كله بيد الله ، وأن العزة لله وحده ، لا في البيت الأبيض ، أو الأحمر ، أو الأسود ، وأنه لا فرق بين أن يكسب جورج بوش ـ وقد فاز ـ أو جون كيري ، أو أي رجل آخر . فشخص الرئيس واسمه لا يغير من حقيقة الواقع شيئاً ، لأنه مجرد رمز أو واجهة ، أو صورة تنفيذية لسياسة منظمة ، ومدروسة ، ومعدة بدقة وإتقان من قبل أجهزة ودوائر ولجان كثيرة متداخلة ، تديرها من خلف الستار حركة صهيونية عالمية ، وهي أشبه ما تكون بمسرح العرائس .
معادلة ..
كل ولى وجهه شطر البيت الأبيض ، والبيت الأبيض ولى وجهه شطر بيت المقدس!!!
آخر الكلام ..
لو ارتقى إيمان بعضنا ـ بقدرة الله أولاً ثم بأنفسهم ـ إلى مستوى أيمانهم بقدرة البيت الأبيض لوجدوا إختلافاً كبيراً ، ولكن ... !!؟
قال تعالى ( الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً ) (النساء : 139) .