كثير من المفاهيم تحكمها علاقة الإنسان ببيئته, وربما تشكّل هذه البيئة طبيعة التفكير ونوع المؤثرات النفسية والعاطفية، و مدى القابلية للتغير والانسجام مع الآخرين؛ فالبيئة الساحلية -نتيجة لقربها من الموانئ والتبادل التجاري والانفتاح على البحر- تملك قدراً من المرونة والقابلية للتعددية ربما أكثر من غيرها من المناطق، والبيئة الصحراوية نتيجة لجفافها وانغلاقها وقسوة العيش فيها، فإن ذلك ينعكس على مزاج وطبيعة أهلها من حيث الرعونة أو الحدة في الطبع والشدة في الرأي, و كذا أهل الجبال وأهل المدن والأرياف وأهل المناخات المعتدلة أو الشديدة برودتها أو حرارتها، كل هذه الأحوال من البيئات المتنوعة لها بصماتها الواضحة على تفكير وسلوك ومشاعر أصحابها، وابن خلدون قد ضرب شواهد كثيرة في تقرير هذه القاعدة الإنسانية. [انظر: مقدمة ابن خلدون 1/88-99].
والمتأمل لجغرافيا المشاعر والفكر والسلوك في مجتمعنا السعودي يجدها تتنوع حسب طبائع المناخ والتضاريس؛ وهذا الأمر ليس مطرداً في جميع الحالات؛ فتواصل المجتمعات وثورة الاتصالات و الفضائيات أثّرت بشكل كبير في انطباق هذه القاعدة على جميع الأفراد, لكني سأتناول مظهراً يدل على أن الجفاف البيئي انعكس على الجفاف العاطفي وشح المشاعر لدى شرائح واسعة من مجتمعنا السعودي والخليجي, فمشاعر الحب والمودة أصبحت إطاراتها ضيقة جداً، ربما لا تتجاوز حب الفرد لنفسه أو خواصه المقربين، في حين أن إخواننا في الدين -وضمن دائرة المجتمع- قد فترت المشاعر نحوهم إما بسبب الاختلاف في القبيلة أو اللون أو المنزلة الاجتماعية أو غيرها؛ بينما نجد الخطاب القرآني يدعو الجميع إلى كسر هذا الطوق الوهمي في قوله تعالى:(يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)؛ فالله عز وجل لما وسّع جانب التعدد بين الناس ردهم إلى وحدة التعاون من خلال قاعدة التعارف بينهم وأساسها التقوى، لذلك ذيّلت بها الآية حتى يتحقق الرقي الجماعي الحقيقي بين أصناف الناس.
وحتى حب المقربين من الزوجة والأولاد والإخوان يكون مغموراً في أعماق النفس، ولا تترجمه الحواس أو تنطق به الألسنة؛ في حين أن النبي عليه الصلاة والسلام قد قال:" إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه" وقال أيضا في التأكيد على أهمية هذه المشاعر :" ما تحابّ رجلان في الله إلا كان أحبّهما إلى الله -عز وجل- أشدهماً حباً لصاحبه" .وقال أيضا :" "إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي". فإذا كان هذا التأكيد على إظهار المشاعر للإخوان والأصحاب؛ فالزوجة والأولاد أولى وأحرى بذلك, وللأسف إن واقعنا الحالي يؤكد حقيقة هذا الجفاف العاطفي بين الزوجين بل الود الخفي للأولاد, وقد تكون هذه المشاعر المدفونة أهم لديهم من الحاجات والإشباعات المادية؛ ولا أكون مبالغاً عندما أقرر أن أهم أسباب الانحراف الأسري لدى بعض العوائل كان سببه حرمان الزوجة أو الفتاة من فيوض الحب وأحاسيسه المعلنة، فيؤدي هذا الحرمان إلى البحث عنه في مزالق العشق الجنسي، والخيانات العاطفية، ومهيّجات العصر الحالي أشد ضراوة في تسويغ الفتنة والتحفيز إليها من ذي قبل سواء جاء من الفضائيات الماجنة أو (البلوتوث)، أو من خلال وسائط المحادثة على (الإنترنت)، أو غيرها من الوسائل التي بدأت تغزو كل بيت في مجتمعنا.
إن شيوع الحب الحقيقي على مستوى الأسرة أو المجتمع و الخالص من الأهواء والشهوات الدنيئة؛ يضمن -بإذن الله- تماسكاً قويا وتآلفاً رحيماً يقضي على أشكال التوتر والجفاء بين الناس, و ينزع فتيل الكراهية والحقد ضد الآخرين, و هذا المسلك من أعظم مقاصد الشريعة و إلا لما جاء ذكره في القرآن أكثر من (83) مرة, وحث عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- في أكثر من مقام، بل جعله المحقق لدخول الجنة في قوله: "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا.." وكم أعجب من شدة عاطفته عليه الصلاة والسلام عندما ينزل من المنبر، وهو يخطب بالناس لما رأى الحسن والحسين يدخلان عليه فيلتزمهما ويقبلهما، بل أعجب من ذلك أن يغدق بعاطفته على العجماوات و حتى الجمادات، ويقول لجبل أحد لما صعد عليه :" جبل يحبنا ونحبه"!!
وأتساءل في الختام هل نستطيع أن نلبي مشاعر الحب في أعماقنا ونتجاوز تأثير البيئة ومناخ الجفوة من حولنا؟! وكم نحتاج في هذا المضمار العاطفي الذي يسعى فيه المحسن والمسيء إلى وعي صادق ننشره على المجتمع؛ فليست ذرائع الشر فيه بأعظم من ذرائع الخير.. أعتقد أننا لو فعلنا ذلك سنفتح الكثير من القلوب الموصدة..!