|
|
التعدّديّة أو الطّوفان..!!
د. مسفر القحطاني
|
زوار :
1307 -
6/2/2007
|
|
|
بهذا العنوان المُبالَغ فيه أصبحت التعدّديّة الفكريّة تُسوّق في المنطقة بأنها طوق النجاة لحل مشكلاتنا المعقدة، والوصفة الطبية لعلاج أزماتنا الراهنة. وفُرضت أنماطها وأشكالها من الخارج، ولو كانت خلاف النسق الديني والفكري للمجتمع. فالحريّة والديمقراطيّة والحداثة بمنظورها الغربي أصبحت المدخل المعاصر للإصلاح السياسي والتعليمي والاقتصادي في المنطقة. وبدأت تُفرض هذه المشاريع الإصلاحية من خلال برامج ذات تمثيل دولي وسياسي لعل آخرها وأخطرها ما طرحه (كولن باول) وزير الخارجية الأمريكي السابق في 12 ديسمبر 2002م في برنامجه بعنوان "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط: لبناء الأمل لسنوات قادمة" وأصبحت أجندة هذا المشروع الشرق أوسطي في حيّز التنفيذ بعد "منتدى المستقبل للإصلاح العربي"، والذي عُقد في المغرب في 10 ديسمبر 2004م، ولم تتوقف بعده (كوندليزا رايس) وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة من بعث خطاباتها ونوابها لتفعيل هذا الدور الإستراتيجي، ولإعادة تشكيل الوعي الديمقراطي والليبرالي لشعوب المنطقة. إن التعدديّة الفكريّة كما يُروّج لها، ويطالِب بها العديد من النخب المثقفة في مجتمعنا السعودي ليست في الحقيقة شراً كلها، كما أنها ليست خيراً كلها، ويمكن التعامل معها إيجابياً وتحويلها إلى مساقات نافعة, مما يتطلب وعياً كبيراً بمفهومها وآليات تطبيقها. ولعلي أسجل بعض ما سنح في ذهني من خواطر حول هذا الموضوع أجملها في النقاط التالية: إن الوعي بأهمية التعدديّة الفكريّة ومتطلباتها الأدبيّة في المجتمع من أهم المراحل التي مازالت نخبنا المثقفة تراوح فيها بين مغالٍ في فرضها ومقصّر في تسويغها, والنضج الكافي لفهم تلك المرحلة لم نبلغه حتى الآن بدليل استمرار حالة المراهقة في أوساطنا الفكريّة وبلوغ المعاندة حداً من المفاصلة والمقاطعة حول قضايا اجتهاديّة وأراء بشريّة محضة قابلة للصواب والخطأ. وهذه الصورة من تأزّم الوعي في فهم التعدديّة تكمن في غياب الحدود والثوابت التي يسوغ فيها الاجتهاد، والتي لا يسوغ فيها الخلاف, والمرجعيّة الضابطة لهذا التعدد في الرأي والفكر هي لكتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول). فما خالف المنصوص القطعي من الكتاب والسنة فهو مرفوض ومردود على أصحابه، كما أن إجماع أهل العلم حجة قاطعة واختلافهم رحمه واسعة. ولو استطاعت مؤسسات المجتمع الرسمية والأهلية الاتفاق على مرجعيّة شرعيّة محكمة ذات تمثيل مؤسسي واقعي وصادق من أجل ضبط المسار، واحتواء الخلاف لساهمت في حماية المجتمع من الانهيار والاحتراب. إن حريّة الفكر التي لا ضابط لها تقود المجتمع إلى انفلاتٍ مهلك، وتورده نفق الافتتان والتنازع, ولا يمكن لأهواء الناس أن تصبح معياراً للحق أو الفضيلة يقول تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن). ولهذا نجد جميع العقلاء يقرون بسقف للحرية حتى المجتمعات التي قامت فلسفتهم الحضارية على الحرية المطلقة فقد جعلوا لها سياجاً يحميهم من فوضى التطبيق لها، ومن مواجهات المطالبين بها؛ بل وتدخلت مصالحهم في ضبطها وتحديد مساراتها. والمجتمع السعودي وهو مقبل على هذه المرحلة نتيجة للحراك الفكري ومؤثراته الدولية، وهو المثقل بأطيافه الفكريّة ومذاهبه الفقهيّة، وتنوّعه القبلي يجب عليه أن يدرك ويعتبر بما يحصل في كثير من المجتمعات الإسلامية من سوء فهم واستغلال لتلك الحرية المطلقة التي لو طُبقت من خلال مفهوم البعض للتعدّدية لأدى إلى الطوفان الحقيقي والمدمر لتماسك واستقرار الفرد والمجتمع. 3- إن وجود قنوات مشروعة للحوار وتبادل الرأي المعتبر كفيلة بتربية المجتمع على سماع الرأي الآخر، وقبول المخالف وحسن الظن بالمسلمين، ولا يحسن هذا التطبيق إلا مع إيمان صادق وتجرد عميق من حظوظ لنفس, كما أن تدخل أهل الفقه الواعي والفكر السديد مطلب ضروري للحدّ من التصرفات الخرقاء لبعض المتحمسين لتيار ضد آخر نتيجة مقال أو خبر يُحمل على أنه هدم للعقيدة أو خرق للإجماع, و لعل من أهم واجبات الوقت المحافظة على كيان الأمة من المزيد من التشظي والافتراق, والأمانة مازالت ملقاة على عاتق أهل التصدر والحضور الجماهيري من تبيين الحق الذي يعتقدون أنه يُشيع التسامح ويحقق الرحمة بين الخلق, وهذا ما جعل أئمة الهدى كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد لما ظهر التعصب الأعمى لآرائهم أن يربطوا الناس بالوحي وظهور الحق، ويشيعوا أدب الاختلاف في الأتباع تجسيداً لمبدأ الشافعي لمّا اختلف مع أحد إخوانه قال له: " ألا ينفع أن نبقى إخواناً وإن اختلفنا" ؟!
|
|
|
|
|
|
|