انفلونزا الجوال
د. مسفر القحطاني
زوار : 1265  -   7/2/2007
 
  قبل عدة أيام اضطررت للبقاء في مطار جدة قرابة تسع ساعات انتظاراً لتحسّن أحوال الطقس والعودة إلى مدينتي الدمام، ولم يكن مطار جدة الذي غصّ بالمسافرين سوى خلية نحل دؤوب ومتحركة ومتكلمة من غير صمت واقفة وجالسة تأكل وتشرب في تنوع سلوكي، ربما كان دافعها لذلك تفريغ شحنات الغضب والانتظار الطويل إلى حين إعلان السفر. حاولت جاهداً أن أستفيد من الوقت بقراءة كتابٍ جلبته معي تحوطاً لمثل تلك المواقف المربكة؛ ولكن هذا التجمع كان يجبرني دائماً للتوقف والتأمل في أنماط سلوك مجتمعنا التي بدأت تتغير ملامحه بانسياب شديد، ومن خلال أنساق جديدة لاحظتها في الأشكال الظاهرة أكثر من المضامين الخافية عن ملاحظاتي المتفرّسة، ولكن اللافت للانتباه الذي دفعني للكتابة حول هذا الموضوع، وهو القاسم المشترك بين أولئك المتواجدين في المطار من كل منطقة، ومن جميع الشرائح ومختلف الأعمار هو سلوكهم الموحد مع الجوال!! الذي لم يفارق يد أحدهم، ولم يتوقف رنينه حتى أثناء الصلاة. هذه الحالة الفريدة جعلتني أتأمل هذه التغير الطارئ في مختلف جوانب حياتنا بعد دخول الجوال في عمقها من غير استئذان، بل جعل حياتنا تنجذب في فلكه وتدور مع تطوراته شئنا ذلك أم أبيناه!
أمام هذه الحالة الفريدة، هل يمكننا أن نسمي عصرنا الحاضر هو عصر الجوال؟.. قبل أن نحكم على مصداقية هذا الوصف من عدمه لنلحظ حجم التأثير في حياتنا قبل وبعد الجوال؛ وليس في منحى واحد بل في جميع جوانب الحياة، ولأضرب على ذلك أمثلة من واقعنا المحلي، فالجوال قد غيّر أساليب حياتية راسخة في القدم كالمتعلقة بالتزاور وصلة الأرحام وعيادة المرضى، وأصبح الاكتفاء برسائل سريعة تكفي من عناء التواصل، وتكرس جليد العلاقات الأخويّة بيننا، ومع ثورة الجوالات المطوّرة، ووسائطها المتعدّدة التي شُغلنا بها إلى درجة الهوس، وقضت على دعاوى الفراغ عندنا؛ ولعل المشاهدة العابرة في أماكن التجمعات والانتظار يؤكد حجم التفاعل الكبير بيننا وبين أجهزتنا المتحركة، مما أفقد دعاة القراءة والاطلاع الجاد الحماس في الحثّ على البرامج التثقيفية المفيدة للعقل والروح، بل هناك من الناس من جعل الجوال ورسائله ومقاطعه المتحركة هو حديث مجالسهم وأُنسهم وشاغلهم لساعات الليل والنهار؟!
لقد ترقى الجوال بصورة سريعة من كونه كماليات مظهرية إلى أن أصبح حاجة عامة، وهاهو الآن يفرض علينا وجوده من باب الضرورات الملحّة في حياتنا التي لا غنى لنا عنه، ولا أعتقد أن هناك من يغامر بالذهاب بعيداً عن جواله أكثر من ساعة! بل أصبح عمر المستخدمين له في تناقص مستمر مما يجعل القضية تتجاوز حدود الحاجة والعمل إلى دوره في التفاهم والتواصل والعيش من خلاله، أمام هذا الانتشار الواسع في حياتنا بدأنا نجني حمّى استخدام الجوال في صور عديدة من حياتنا، ففواتيره التي بدأت تشكّل عبئاً مالياً كبيراً على كاهل ميزانياتنا، وأصبحت جرائمه في تزايد مستمر تنذر بخروقات كبرى في سياجنا الاجتماعي؛ فحالات الخيانة الزوجية، و الطلاق والتهديد بالفضائح، وتناقل مقاطع البلوتوث المهينة لم تعد نتائجها خافية على أحد منا، بل هناك عدد من الدراسات تؤكد أن الجوال أضحى من أهم أسباب حوادث السير على الطرقات وقتل الأرواح.
إن سكرة الانكباب اللاواعي نحو الجوال بكل معطياته الراهنة وتغيراته القادمة تتطلب منا إفاقة عاجلة ترشّد سلوكنا في التعامل معه، وتحمي مكتسباتنا من أخطاره، وإلا فالمزيد من اتساع الهوة بين علاقاتنا واهتمامات أجيالنا القادمة.
إن أجيال أجهزة الجوال القادمة تحمل معها المزيد من المفاجآت على المستوى التقني والتفاعلي وحتى على مستوى الأثر الناجم عنها، والحدّ والتحذير بالمنع من دخولها هو خيار العاجزين، والاستفادة منها وتحويرها لصالحنا هو المحك الحقيقي لواقعيتنا وقدرتنا على مواجهة تلك التحديات، لا أعتقد أن هناك حماية واقية ومضادات دافعة لهذا المرض العصري سوى بناء الوعي في التعامل مع صور التقانة المعاصرة، وتنمية التفكير الموضوعي بحسن الإفادة منها، وزرع الوازع الإيماني الواقي من غلوائها، وأستميحكم عذراً أن أتوقف عن الكتابة؛ فجوالي لم يصمت من ندائي حتى وإن تجاهلته.. ويبدو أني أُصبت بأنفلونزا الجوال على الرغم من كل المضادات الواقية!!.
 

 

الإسم  
الدولة  
البريد الإلكتروني   
تقييم الموضوع  
التعليق  
رمز التفعيل


 
 
 

د. مسفر بن علي القحطاني