|
|
روعة التهافت؟!
د. مسفر القحطاني
|
زوار :
1546 -
7/2/2007
|
|
|
" القيم إلى أين؟ " هذا التساؤل الكبير كان محطّ اهتمام أكثر من خمسين مفكراً جمعتهم اليونسكو من كل أنحاء العالم للتباحث حول مستقبل القيم في ظل التطورات الهائلة التي أصابت عدة قطاعات حيوية جاءت بها ثورة التقنية والأسواق المفتوحة وعممتها وسائل الإعلام والاتصال, وكان هناك شبه إجماع -حسب قراءتي لمقالاتهم ومناقشاتهم لهذه القضايا- وهو أن التهديدات هي أعظم من المبشرات ودواعي التشاؤم التي تحكم معطياتها إشراقات التفاؤل. لقد رصدت هذه المجموعة من الباحثين والفلاسفة خطورة المستقبل القادم للقيم الإنسانية، لا بدعوى التنبؤ بإرهاصاته، ولكن من أجل الحماية من تداعياته الكارثية، وبالخصوص على مستوى القيم الفكرية والثقافية والأخلاقية وحتى الدينية، فقد بدأت تخضع هذه القيم لمنطق العرض والطلب، وحاجات السوق الكبير الذي ساحت به العولمة في كل أودية العالم، وأصبحت المساومات المادية هي لغة التفاهم بين الدهاقنة أصحاب التمويل وعابري البحار من الشركات المتعددة الجنسية، وبين أفراد ومؤسسات الثقافة ومصانع الفكر, وهنا مكمن الخلل الذي يتعدّى سوء الاستغلال للتراث الإنساني والقيم النبيلة التي حفرتها مَسلّة المجتمعات البشرية, وهذا ينذر بكساد قيمي قد يحطّم المجتمع، ويلاشيه، ويصبح الناس كالمسامير المتحركة في تلك المجتمعات الميكانيكية، أو سلعاً رخيصة لاستهلاك الأقوياء وإلهاء الضعفاء. هذه المقدمة السابقة هي رؤيتي الواضحة لمستقبل القيم في كثير من أنحاء العالم، بعيدة عن أي نظارة تختزل الواقع في وردة صغيرة. صحيح أن المجتمعات ليست قالباً واحداً في حجم التأثر بل هناك تفاوت في القوة والضعف بينها قد يكون مرده إلى العامل الزمني الذي تحدده العولمة في خطتها للانتشار, وفي منطقتنا العربية القطار قد وصل المحطة، والركاب ينتظرون الدخول فيه لحجز مقاعدهم في رحلتهم نحو المجهول! أعلم أن هذا التشاؤم لا يليق بالمسلم الذي يصنع الخير من معامل الشر، ويحطم قيود اليأس بالعمل المثمر، ويغرس النخلة، ولو قامت الساعة, لكن الفأل المفرط لا يمنع دقّ نواقيس الخطر القادم من تحولنا إلى سوق كبير يُباع فيه كل شيء, نعم كل شيء حتى الفكر والقيم والإنسان, والمتأمل في اقتصاديات العولمة وأسواقها الحرة رأى كيف تذوب اللغات، وتُهمّش الثقافات، ويُباع الإنسان، أو يُدفن حياً تحت ركام الديون أو البحث عن فتات العيش في مزابل الأغنياء والمترفين. لذلك خرجت صيحات فلاسفة الغرب كـ(جاك دريدا) و(هابرماس) و(بيار) و(ريفكي) و(تشومسكي) و(كنيدي) وغيرهم بالدفاع عن القيم، ولو كانت ناقصة التأثير؛ فالحداثة الغربية بمفاهيميها العلمانية قد ماتت في نفوس الكثيرين، وسقطت في براثن فيروسات الغطرسة والتعالي وازدواجية المبادئ, وورثتها الحاليين ناقمين عابثين محطمين بناء الأسلاف مهما كان جماله في أعينهم. أنني أشاهد في مجتمعي تلك الصورة المتكررة للاستبداد والاستغلال, وتلك البدايات التي انتهت منها شعوب، وذاقت مرارتها ثقافات، تريد بسط نفوذها تحت هيمنة الإعلام المؤدلج, ووطئت المنتديات الاقتصادية التي يُجلب لها متحدثون من العالم يعيدون تنميط الثقافة وإنتاج القيم للناس، كما يريدون، لا كما نؤمن ونعتقد, لقد اضطّروا المثقفَ والكاتبَ والعالمَ لأن يتوقف عن الإبداع والبحث والتأليف حتى يرتفع الطلب، أو يبيع ما عنده وفق احتياج السوق وأهواء الناس, وعليه دائماً -إذا لم يكن له صديق أو معرّف في هذا السوق- أن يعدّ الجواب لأسئلة الناشرين: كم سيجلب من مال أو يشتري بضاعته الفكرية من أناس، ولو بالإثارة التافهة أو الدّوْس على القيم السامية؟! هذه الحالة المؤسفة خيوط بداياتها تتفاقم في مجتمعنا وملامحها بدأت تظهر في معارضنا للكتاب، وبرامجنا الإعلامية في تحقير العظيم، وتعظيم الحقير، وتحطيم الوعاة، وقراءة سورة يس على مشهدنا الفكريّ الأصيل؟!!
|
|
|
|
|
|
|