|
|
ثقافة الإغراق في الهوامش
د. مسفر القحطاني
|
زوار :
1353 -
7/2/2007
|
|
|
المتغيّرات التي حدثت في عمق المجتمع السعودي حرّكت المياه الراكدة نحو موجات من المدّ والجزر والقبول والرفض خصوصاً في الشأن الفكري والفقهي والاجتماعي, فالمعلومات ومفردات الثقافة تجاوزت كل الحدود والسدود الواقية، فلم يَعد هناك ماهو ممنوع أو مقطوع بمقص الرقيب، بل العكس تزايدت الاهتمامات نحو الأخبار المثيرة الفاضحة للمشهورين أو الداخلة في خصوصيات الرموز، وتفاقمت ثقافة الردود والطعون؛ وزادت حمّى الإثارة بالتنافس على تدعيم تلك الأخبار بمقاطع صوتية أو مرئية حتى تحظى بالانتشار في الآفاق والمنتديات. فالنّهم لم يُشبع بعد من الحرمان الطويل, وثورة الاتصال الراهنة تحمل معها كل جديد ومثير؛ و منذرة بطول أمد هذه الظاهرة .. والمتابع للمشهد الثقافي والإعلامي المقروء والمرئي يجده لم يسلم من المحاكاة والانسياق وراء رغبة الجمهور الباحث عن الإثارة الفكرية أو الإغراق في تفاصيل هامشية لخصوصيات الرموز والمشاهير. فأكثر البرامج التلفزيونية متابعة في مجتمعنا- كما ألحظ ذلك- هي التي تروّج لذلك النمط من الثقافة. ولقد تابعت بعض الملاحق الثقافية والإسلامية في بعض صحفنا فوجدت الكثير من أطروحاتها ومقالاتها يأتي في سياق تكريس هذا الخطأ المعرفي الذي أصبح يشكّل دعامات البناء الفكري لدى كثير من القرّاء الذين ربما يجهلون أصول دينهم وثقافتهم في حين يعلمون تفاصيل الكثير من الردود على الكتّاب والمشايخ، ويجادلون في تفاصيل الأخطاء والطعون والتهم الموجهة للأفراد أو الجماعات الفكرية. ومن الجدير بالملاحظة في هذه الظاهرة هو ضرورة ألاّ تنساق صحفنا ومجلاتنا ومواقعنا على الشبكة العنكبوتية خلف هذه الاهتمامات، أو تسعى لتحقيق رغبات أمثال هؤلاء القرّاء على حساب الأصيل من الفكر والجديد النافع من الثقافة، مع الاهتمام بتأصيل العلوم الشرعية قبل الخوض في الفروعيات الخلافيّة أو المجادلات الفقهيّة. وهذا ما يكفل لنا على المدى الطويل وجود عقليّات موضوعيّة معتدلة واعية بواجباتها الدينيّة ودورها التنموي سواء في محيط العمل أو الأسرة أو المجتمع. ولو تأملنا هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الوقائع لوجدنا نهيه الصريح عن الغلوطات كما جاء في سنن أبي داود. يقول الإمام الأوزاعي في بيان معنى (الغلوطات) :" هي شرار المسائل, و المعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليُستزلوا بها, و يُسقط رأيهم فيها". وقال الإمام الشاطبي في الموقف من زلات العلماء وأخطائهم:" إن زلة العالم لا يصحّ اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له، وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، و لذلك عُدَّت زلةً، وإلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة، و لا نُسِب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبها إلى التقصير، و لا أن يُشنَّعَ عليه بها، و لا يُنتَقَصَ من أجلها، أو يُعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً، فإن هذا كله خلاف ما تقضي رتبته في الدين". قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حين اضطره المقام إلى الخوض في مسألة زلات العلماء: " نعوذ بالله –سبحانه- مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم، أو محادّتهم و ترك محبتهم و موالاتهم، و نرجو من الله –سبحانه- أن نكون ممن يحبّهم و يواليهم، و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ". فهذه الإشارات الهادية والمعالم الراشدة مهمة للسالك في هذا الدرب الشائك من الخصومات والمشاحنات الخالية من أدب العلم وهدي الشرع. يقول الشيخ بكر أبو زيد في حلية طالب العلم: "احذر الجدل البيزنطي، أي الجدل العقيم أو الضئيل؛ فقد كان البيزنطيون يتحاورون في جنس الملائكة والعدو على أبواب بلدتهم حتى داهمهم. وهكذا الجدل الضئيل يصدّ عن السبيل"!!
|
|
|
|
|
|
|