البيان.. والحاجة إلى بيان
د. مسفر القحطاني
زوار : 1455  -   7/2/2007
 
  تناقلت وسائل الإعلام الخطاب المفتوح الموجه للشعب العراقي والذي أعده جمع من طلبة العلم وأساتذة الجامعات في المملكة العربية السعودية.. وأثار هذا الخطاب حفيظة الكثير من الصحفيين وكتّاب بعض المواقع الإلكترونية. وحمّلوا هذا الخطاب مالا يحتمل من معان وفهوم، وأجلبوا على الموقعين بخيلهم ورجلهم بأنهم وراء العنف والقتل ودعم الإرهاب وتفتيت الشعب العراقي إلى غيرها من تهم وإدانات تفتقد العلمية والمهنية. كما فهم منه بعض المتحمسين أنه دعوة للقتال مع أهل العراق، و لهذا أحببت التعليق -من خلال وجهة نظري الخاصة- على ما جرى ببعض النقاط الموجزة:
أولاً: إن الداعي إلى تدوين هذا الخطاب "الحال الاستثنائية التي يمر بها الشعب العراقي, والتي توجب التناصر والتضافر، وتبادل الرأي والمشورة والنصيحة التي هي من حق المسلم على أخيه" كما جاء في الخطاب. فكانت حقيقتها رسالة تضامن من مسلم لأخيه المسلم لم تحمل معها طابع الرسمية أو الدبلوماسية السياسية؛ بل كانت تخاطب الشعب المسلم بكل أطيافه ومذاهبه وتدعوهم للوحدة والتكاتف ونبذ أسباب الفرقة والاختلاف؛ خصوصاً في ظل التداعيات القائمة نحو التقسيم والاحتراب الداخلي, ومع هذا كله فقد أقحمه بعض الكتّاب والإعلاميون في حساباتهم الخاصة وتداولوه في دعم مكاسبهم دون الالتفات إلى مصلحة الشعب العراقي وظروفه الراهنة.
ثانياً: استحوذت مسألة حق الشعب العراقي في المقاومة على جلّ الكتابات التي انتقدت البيان وحمّلته السبب في كل أشكال القتل والعنف الحالي والماضي والدعوة للفوضى!, ولم يُقنع المنتقِدين النقاطُ الباقية التي ضبطت هذا النوع من المقاومة وجعلت "الأولوية في هذه المرحلة لترسيخ وحدة البلد والمصالحة الداخلية وتجنب أسباب الفتنة والاحتراب, وكف بعض الطوائف عن بعض، باعتبارها مصلحة مشتركة كما ورد في البيان. أما ما جاء فيه من تأصيل لحق المقاومة وأنه من باب جهاد الدفع للغازي؛ فهذا لا خلاف فيه حتى في المواثيق الدولية, فقد جاء في الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي أقرته جميع الدول العربية في أول مارس2004م نص "المادة الثانية:
1-لكافة الشعوب الحق في تقرير مصيرها والسيطرة على ثرواتها ومواردها، ولها الحق في أن تقرر بحرية اختيار نمط نظامها السياسي وأن تواصل بحرية تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
2-لكافة الشعوب الحق في العيش تحت ظل السيادة الوطنية والوحدة الترابية.
3-إن كافة أشكال العنصرية والصهيونية والاحتلال والسيطرة الأجنبية هي تحد للكرامة الإنسانية وعائق أساسي يحول دون الحقوق الأساسية للشعوب، ومن الواجب إدانة جميع ممارساتها والعمل على إزالتها.
4-لكافة الشعوب الحق في مقاومة الاحتلال الأجنبي".
وهو ما قررته منظمة المؤتمر الإسلامي في إعلانها العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1981م , وكما صرح أمينها العام في 11اكتوبر 2003م بضرورة جلاء المحتل الأمريكي عن العراق وذلك في اجتماع القمة الماضي في ماليزيا. فمادامت صفة المحتل متصوّرة في التواجد الأمريكي؛ فصفة المقاومة المشروعة باقية لأصحابها, ومازال هذا الوصف قائماً في تصريحات الدول الأوربية والمنظمات الحقوقية؛ بل وطوائف كبيرة داخل المجتمع الأمريكي. أما بالنسبة لتكييف هذا الحكم واعتباره جهاداً مشروعاً له مستلزماته الفقهية؛ فكان ينبغي تحديده وضبطه وذكر شروطه وتنزيلها على الواقع وإيراد الموانع والدوافع على تطبيقه لآحاد المسلمين, وربط تقدير ذلك كله بعلماء البلد المعني, دفعاً لالتباس المفاهيم؛ وهذا ما قصر البيان في إيضاحه.
ثالثاً: هناك جدلية قديمة وقائمة بين السياسي والفقيه تتداخل معطياتها أحيانًا، وتتقاطع أحياناً أخرى بسبب اختلاف الفوارق والمنطلقات؛ فالسياسي ينظر بعين المصالح الآنية والمنافع المتقلبة تبعاً لمزاج الظروف والقوى الخارجية, ولهذا تتعدد لديه المواقف من الشيء الواحد على سبيل التناقض في وقتين مختلفين والمسألة واحدة, والفقيه الناظر في الوقائع المستجدة عندما يستدل بالمصلحة المرسلة لكثرة تطبيقها في مجال النوازل المعاصرة عليه أن يراعي ما يقتضيه النظر الشرعي، وأهم ما في ذلك أن تكون المصلحة حقيقية ومضبوطة بضوابط الشرع ومندرجة تحت كلياته المقطوع بها, وكم من الإشكالات تحصل بسبب تداخل الأدوار بينهما.. والبيان في الحقيقة لم يحمل فتوى بقدر ما هو نقل لكلام أهل العلم المعتبرين؛ تجلية لحالٍ متشابكة اختلط فيها الحق بالباطل والمقبول بالمرفوض، ولكنه استغل على خلاف مراد أصحابه –كما أحسب-، وأوجد مادة إعلامية ركّز فيها البعض على جمل منه قطعوها عن سياقها ولم يتطرقوا إلى روح البيان والدعوة الواضحة فيه للاهتمام بالمصالحة والبناء والوحدة الوطنية على أساس الحق والعدل والمساواة.
رابعا: اختزلت بعض الانتقادات ما يحصل في الشأن العراقي بكل مشكلاته المعقدة والمزمنة بأن وراءها مثل هذه الفتاوى المغرِّرة, وقد يكون ذلك مقبولاً لو كان البيان يحرّض على الخطف وقتل الرهائن الآمنين وتخريب المصالح العامة ومدافعة الحكومة العراقية الحالية وقتل المسلمين أياً كانوا، وهذا لم يرد في البيان، ولا أعتقد أن أحداً من الموقعين يرى ذلك مطلقاً, وما احتمله البيان من فهوم ودلالات عند البعض فمرجعيتها لقاعدة (لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح)، وأكثر الموقعين تصريحاتهم تنفي ما قد يتوهم من البيان في مناسبات عديدة وفتاوى سابقة, ولهذا أدعو لقراءة البيان بنفس متزنة وبعقلية متجردة وروح مؤمنة صادقة بعيدة عن المراهنات وتصفية الحسابات؛ لعلها أن تزيل الأوهام العالقة من صفحات الإنترنت وتحبط محاولات الإثارة والوقيعة بين أصحاب البيان وولاة أمرهم وعلمائهم؛ فإنهم مازالوا على العهد والوفاء لدينهم ووطنهم وأمتهم.
 

 

الإسم  
الدولة  
البريد الإلكتروني   
تقييم الموضوع  
التعليق  
رمز التفعيل


 
 
 

د. سارة بنت عبدالمحسن بن جلوي