التأصيل الشرعي..وقاية وهداية
د. مسفر القحطاني
زوار : 1368  -   7/2/2007
 
  خرج في الفترة الماضية بعض رموز العمل القتالي والتكفيري في مصر والخليج ليعلنوا رجوعهم عن بعض المقالات والفتاوى المتعلقة ببعض المسائل العظام من تكفير و تفجير ومواجهة للأنظمة.
وكان هذا الرجوع والتغيّر مصدر ارتياح واطمئنان لشعوب ومؤسسات المنطقة مما دعا الكثير لدراسة هذه المرحلة وتقويمها.
وبغض النظر عن فقه المراجعات الذي أعلنه رموز هذا التيار القتالي؛ إلا أنها تعتبر خطوة رائدة نحو الاعتدال وحقن الدماء وعصمة للأمة من الوقوع في الفتن والاحتراب الداخلي.
ولكن ينبغي أن نستفيد من تلك الأحداث والمراجعات دروسًا نتعلم منها ما مضى ونستفيد منها فيما بقي وقاية وهداية لشباب المسلمين من الوقوع في الفتن والانحرافات الفكرية.
وأرى -والله أعلم- أن من أهم الدروس التي يجب أن نهتم بها ونراعيها في ميادين العمل الإسلامي؛ التأكيد على البناء العلمي والفقهي لدى العاملين لدين الله عز وجل، والتأصيل الشرعي لقضايا الأمة ونوازلها الحادثة من خلال قواعد التأصيل والاستدلال التي امتازت بها أمة الإسلام عن باقي الأمم الأخرى فيما يعرف بـ"علم أصول الفقه".
فعلم أصول الفقه -كما قال الإمام الغزالي- من أجلّ العلوم وأشرفها فهو يبحث في أدلة الأحكام وقواعد الاستنباط وكيفية الوصول إلى الحكم الشرعي في النوازل والمستجدات ولذلك كانت العناية به جليلة لشرف مقصوده". ويعرف شرف الشيء وقدره بتقدير فقده وتصور ضده. ولو قدَّرنا فَقْد هذه المراسم المرعية والأحكام الشرعية الموضوعة لأفعال الإنسانية لصار الناس فوضى هملاً مضاعين، لا يأتمرون لأمر آمر، ولا ينزجرون لزجر زاجر، وفي ذلك من الفساد في العباد والبلاد ما لا خفاء به. وقال شاعرهم وهو الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم    
ولا سراة إذا جهالهم سادوا" (1) 
فهذا العلم الجليل قد تضمن فوائد جمة وقواعد مهمة لا يستغني عنها عالم ولا صاحب فنّ، وحتى المسلم العامي إذا أدرك بعض قواعده نفعته في حياته العامة، وذلك لاحتوائه على الطرق الضابطة لمعرفة الحق والصواب وتجليته للدليل الصحيح المناسب للوصول إلى الحكم الصحيح؛ بعيداً عن الخرص والظن واتباع الهوى الذي قد يؤدي إلى التنازع والاضطراب في حياة الناس ومعاشهم.
فلذلك لا يجدُّ في حياة الناس أمر أو ينزل بهم حادث إلا وفي أصول الفقه الدليل المنطوق أو المفهوم على بيان حكمه ومراد الشرع فيه بما يضبط للناس حياتهم ويحقق لهم السعادة في الدارين .
فالدعوة إلى الله –مثلاً- جزء من أحكام الشريعة وتصرفات الدعاة والعاملين لدين الله –عزوجل- في جميع الميادين لا تخرج عن تصرفات المكلفين التي قد ضُبِطَت من قبل بأصولٍ وقواعد تعالج ما يقع منهم من تصرفات وأعمال .. فإذا قررننا هذا الأصل المسلَّم؛ فإن واقع الدعوة المعاصرة في كثير من البلدان والأحيان بدت وكأنها محض أفكار وتصورات وعواطف وردود أفعال لا مرجع لها إلا أقوال وأفهام أصحابها، وخصوصًا فيما يتعلق بمجريات الأحداث الراهنة أو الوسائل الدعوية أو التنظيمات الحزبية ومناهج العمل وفق المراحل والأولويات الدعوية، مع أن مقصود أولئك العاملين لهذا الدين هو إرجاع الناس إلى حياض حكم الله -عزّ وجل- من خلال العمل بشرعه وتطبيقه في جميع شؤون الحياة، فإذا كان هذا المقصد منصوص عليه ومقطوع به؛ فإن الوسائل إليه مضبوطة مقيدة بأصول الفقه ومقاصد الشريعة الكلية لا تخرج عنها بحال من الأحوال. فالممارسات الجهادية والأعمال الدعوية والإصلاحية التي لم يُنص عليها ويجتهد أصحابها في تطبيقها على واقعهم المعاصر؛ لا تخرج في حقيقتها عن قواعد وأصول الفقه لمن تأمل ونظر وخرج عن مألوف ما صُنِّف في كتب الأصول إلى النظر إلى مقاصده وقواعده الخاصة والعامة, أما بتر النصوص عن مقاصدها, ونقل الفتاوى بعيدًا عن واقعها, والمغالطة في الاستدلال من غير اعتبار للعوارض والمؤثرات على الدليل.. كل ذلك نقص في التأصيل وتلبيس على المسلمين.
ومن هنا كانت الحاجة إلى تأصيل الفقه الدعوي وربط المناهج الإصلاحية بأدلتها وأصولها القائمة عليها، وإحياء هذه النظرة التأصيلية في اجتهاد الدعاة .. ولا شك أن هذا العمل إذا تحقق في واقع العمل الإسلامي فإنه سيثمر في نفوس الدعاة ثقة بالمنهج ووضوحًا في الطريق، ويقلل من خطر الوقوع في الفتن المضلة والشبهات المزلة مع ما يحققه من سعة في الأفق وزيادة في العلم والعمل لدين الله -عز وجل- على هدى وبصيرة.
وهنا ثمرة أخرى للتأصيل الشرعي لقضايا العمل الإسلامي فيما يتعلق بالفصائل الدعوية، إذ هو عامل تقارب وجذب بين الدعاة والمصلحين وإن اختلفت منهاهجهم وتعددت طرائقهم.
فالإمام الشافعي رحمه الله لما قرر قواعد وأصول الفقه حقق تقارباً كبيراً بين المدارس الفقهية في وقته، ولذلك جاء عن الإمام أحمد رحمه الله قوله : "ما زلنا نلعن أصحاب الرأي ويلعنونا، حتى جاء الشافعي فمزج بيننا"(2).
يؤكد ذلك الحافظ ابن حجر في نقله عن أبي الوليد بن أبي الجارود قوله: "انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس فرحل إليه – أي الإمام الشافعي رحمه الله – ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن جملاً ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث فتصرَّف في ذلك، حتى أصّل الأصول وقعّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف"(3).
فالإمام الشافعي رحمه الله لما أصّل وقعّد الفقه قارب بين المذاهب وردم الهوة الحاصلة بينهم, وكذلك الدعاة إذا أرادوا تقاربًا وتعاونًا مؤتلفًا بينهم فعليهم بتأصيل عملهم من خلال الشرع، وإن حصل الاختلاف بينهم بعد ذلك؛ فإنه أقرب إلى التنوع منه إلى التضاد، وأدعى إلى التوافق والانسجام بدلاً من التنافر والاحتدام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الوصول إلى الأصول لابن برهان 1/47و48.
(2)ترتيب المدارك 1/95.
(3)توالي التأسيس لابن حجرص53 نقلاًمن كتاب الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر ص112-113تأليف:عبد الغني الدقر. 
 

 

الإسم  
الدولة  
البريد الإلكتروني   
تقييم الموضوع  
التعليق  
رمز التفعيل


 
 
 

د. مسفر بن علي القحطاني