|
|
ضوابط المصلحة الدعوية(2/2)
د. مسفر القحطاني
|
زوار :
1352 -
7/2/2007
|
|
|
ذُكر في الجزء الأول من المقال أهم الضوابط الشرعية للعمل بالمصلحة المرسلة سواء كان العمل بها في مجال الدعوة والإصلاح أو غيره ذلك , وأحب أن أقرر بعد التمهيد السابق بذكر بعض التنبيهات والإشارات في التطبيقات الدعوية للمصلحة في واقعنا المعاصر، أوجزها فيما يلي: أولاً :إن اعتبار الأخذ بالمصلحة وبناء الأحكام عليها وجعلها ذريعة لمواقف ومنطلقات تقوم عليها الدعوة ينبغي أن يحتاط له ولا يكون مدخلاً لنوازع النفس والهوى أو باباً مفتوحاً للأدعياء وأنصاف العلماء، أو نوعاً من الإقرار بالمصالح الضعيفة أو الموهومة نتيجة لضغط الواقع ، أو بحجة فقة التيسير ، أو توسعاً في الانفتاح على المجتمعات والرقي في سلم الحضارات . ومن وسائل الاحتياط والاهتمام في الأخذ بالمصلحة في قضايا الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد أن تكون منطلقة من أهل الاجتهاد من العلماء والباحثين من أهل الفقه والعلم لسعة اطلاعهم وشمول معرفتهم لأحكام الشريعة، وكلما كان النظر والاستدلال من خلال اجتهاد جماعي لا فردي كان أكثر دقة وأقرب إلى الصواب وأقل احتمالاً في الخطأ. يقول د. عبد المجيد الشرفي في أهمية الاجتهاد الجماعي : "أنه ضمانة لعدم استغلال هذه القاعدة في تعطيل شرع الله بذريعة تغير المصلحة… ولكونه أكثر ضمانة في التحري عن المصلحة وتغيرها ، وأكثر دقة في الابتعاد عن الهوى وأكثر إصابة للحق " (1) . وكان هذا النهج في النظر هو فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- إذا نزل بـهم أمر وأرادوا الحكم فيه؛ فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يجمع رؤوس الناس وخيارهم ويسـتشـيرهم فإذا اجتمع أمرهم على أمر قضى به، وكان عمر -رضي الله عنه- يفعل ذلك إذا أعياه أن يجد حكم مسألة ما في الكتاب والسنة سأل : هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به . (2) ثانياً: إن النظر في المصلحة ينبغي أن يمتد إلى ما تؤول إليه من نتائج مصلحية أو ما سوى ذلك من مفاسد، فقصر الأخذ للمصلحة على وقتها من دون اعتبار الأوقات الأخرى، أو على مكان من دون اعتبار الأماكن الأخرى، أو على شخص من دون اعتبار بقية الناس وخصوصاً في الفتاوى والأنظمة العامة مما قد يكون وسيلة أو ذريعة إلى مفسدة أو الوقوع في محظور ، مع اعتبار الأولى من المصالح فالأولى بتقديم المصالح الدائمة أو المتعدية أو الأكثر نفعاً والأطول بقاءً على غيرها من المصالح المرجوحة الأخرى. يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- عن المجتهد : "لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجاب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه… فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية … وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جارٍ على مقاصد الشرع"(3). ومن أمثلة اعتبارات المآلات والذرائع في الشرع : قوله تعالى ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ …) (4) وقوله تعالى ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الألْبَابِ ) (5) . ومنها: النهي عن بيع العينة لأنها ذريعة للربا، وعدم قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- للمنافقين كي لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه، وعدم هدم وبناء الكعبة على قواعد إبراهيم لأن الناس كانوا حديثي عهد بالكفر، ونهيه للصحابة عن إخراج الأعرابي الذي بال في المسجد لما يتريب على ذلك من ضرر عليه وأذى في المسجد، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التشدد في العبادة والغلو فيها حتى لا يحدث للإنسان ملل أو إفراط في الغلو المحظور. (6) وللإمام ابن القيم تقسيم لطيف في أنواع الذرائع ما يسد منها وما يفتح يقول فيه -رحمه الله- : "والذرائع تنقسم إلى أربعة أقسام: 1- أن تكون وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة، كشرب الخمر مفضٍ إلى مفسدة السكر ، والزنا مفضٍ إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، وهذا النوع جاءت الشريعة بمنعه. 2- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة ، كعقد النكاح بقصد التحليل أو عقد البيع بقصد الربا، وهذا ممنوع . 3- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالباً ، ومفسدتها أرجح من مصلحتها ، مثل الصلاة في أوقات النهي ، وسب آلهة المشركين، وتزيين المتوفى عنها زوجها في زمن العدة. وهذا ممنوع . 4- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها، كالنظر إلى المخطوبة أو المشهود عليها، والصلاة ذات الأسباب في أوقات النهي ، وكلمة الحق عند سلطان جائر ، وهذا مشروع في الجملة . " (7) ثالثاً : إن قاعدة النظر في المآلات قاعدة معتبرة شرعاً كما بينا ذلك وأكده الإمام الشاطبي - رحمه الله- بقوله : "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة " (8) . واعتبار المآلات في النظر والاجتهاد أمر مهم للمجتهد يجعل نظره ممتداً إلى ما يؤول إليه حكمه أو ما يتوقع أن يحدث من المكلف أو ما ينتج عنه في المستقبل ليراعي ذلك كله في اجتهاده (9) ولاشك أن هذه النظرة الاسستشرافية للمستقبل كما يحتاجها المجتهد والمفتي وأهل القضاء؛ فإن الداعية أحوج ما يكون إليها وهو يقرر أحكام الله -عز وجل- في الأرض ويضع الخطط الإصلاحيه والأهداف والوسائل الدعوية لتنزيلها على مختلف أنواع المكلفين وأصناف المجتمعات وأحوال البيئات والأزمنة. وكل ذلك يتطلب أن يتجاوز الدعاة واقعهم القريب إلى استشراف المستقبل البعيد، وأن تكون لهم دراسات مستقبلية يتوقعون فيها ما يمكن حدوثه أو يحصل تغيّره، ثم وضع برامجهم الإصلاحية مراعين ما يلزم لذلك من احتياطات واستعدادات تكون سياجاً آمناً من مفاجآت المستقبل ومتغيرات الزمان. وليس في ذلك ادعاءٌ للغيب أو تجاوز للشرع؛ وحاش للدعاة أن يدّعوه؛ بل إن ذلك معتبر ضمن ما ذكرناه من قاعدة اعتبار المآلات، والنواميس التي وضعها الله -عز وجل- في الأنفس والمجتمعات والكون ثابتة لا تتغير ومحكمة لا تتبدل إلا إذا شاء الله -عز وجل- ذلك، فإذا اكتشف الدعاة نظام هذه النواميس والسنن وساروا ضمن قانونها العام فإنهم لن يعدموا خيراً ، إذ قد بذلوا ما في جهدهم من أسبابٍ تحقق لهم العزة والنصر بإذن الله . وإذا كان واقع الدعوة المعاصرة مع ثقل ما تحمله على كاهلها من واجبات وأعباء لا تعطي لاستشراف المستقبل كبير اهتمام مع ضرورته في وقتنا المعاصر . فإننا نجد كثيراً من دول العالم الغربي ومنذ زمن بعيد قد اهتمت بذلك الأمر اهتماماً بالغاً جعل من دولة السويد أن تضع حقيبة وزارية في حكومتها للاهتمام بالمستقبل منذ عام 1973م ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ستمائة مؤسسة لدراسة المستقبل (10) ؛إلى غيرها من مؤسسات الاستشراف الكثيرة في الغرب والشرق الأسيوي في حين يفتقد عالمنا العربي والإسلامي إلى مثلها وهو يحمل الكثير من الهموم والمشكلات المتجذرة التي تستلزم حلولاً بعيدة وعلاجات طويلة الأمد . رابعاً : إن اعتبار حجيّة المصلحة المرسلة جعل جمهور الفقهاء يستخرجوا بناءً عليها أحكاماً شرعية لكثير من المسائل التي صدرت بشأنها القوانين والأنظمة ، كقوانين العمل والعمال وأنظمة التجارة والصناعة والزراعة، وفرض عقوبات رادعة لبعض الجرائم كتعاطي المخدرات والاتجار فيها ، إلى غيرها من الأنظمة والقوانين واللوائح التي تنظم المجتمع ولم يرد بشأنها نص من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. فإذا قررنا اعتبار المصلحة المرسلة في تنظيم شؤون المجتمع وإلزام الناس بها فما الذي يمنع من اعتبار المصلحة في تنظيم شؤون الدعوة وتنظيم أمور الدعاة وفق أنظمة وقوانين ولوائح لها قوة التطبيق والإلزام . خامساً : يمارس بعض الدعاة إلى الله نوعاً من التلفيق الاجتهادي المذموم بغية الوصول إلى الهدف المطلوب والسيطرة المنشودة ومدّ النفوذ والعلو على كل موجه؛ تحقيقاً لمصلحتهم الخاصة وإن كانت وسائلها ممنوعة؛ فالغاية عندهم تبرر الوسيلة مهما كانت، والعبرة بإيجاد مصلحتهم المتوهمة ولو خالفت نصوص الشرع وقواعده الكلية . إن هذا المبدأ الميكافيلي الذي سيطر على مناهج بعض الدعوات المغرضة حقق لهم انتصارات هامشية وامتداداً سرابياً بين الناس، ولكن على حساب المبادئ الشرعية والثوابت الخلقية في الإسلام . يظهر هذا الانتهاك في عدة صور عملية واقعية كالطعن والثلب في العقائد والأعراض وتصيد الأخطاء والزلات لكل داعية يخالف منهجهم وتشويه المناهج الأخرى من أجل التصدر والاعتلاء على الساحة الدعوية. وقد ترى تقلب المبادئ والمناهج بين الأخذ بالعزائم والتشدد في العقائد والعبادات وامتحان الناس بها وأخذ خواصهم بالرخص الملفقة وإسرارهم بها، يقول عمر بن عبد العزيز منبهاً على خطورة هذا المنهج البدعي الذي ظهر في زمانه : (( من جعل دينه للخصومات أكثر التنقل )) (11) كما نجد السعي الدؤوب في تبرير كل اجتهاد نَحَوْه مهما كان انحرافه وليّ أعناق الفتاوى فضلاً عن نصوص الشرع لتوافق أهواءهم وطموحاتهم الحزبية. إن دعوة قامت على هذا الجرف الهار لا تلبث أن تنهار وتذهب ريحها ويتفرق جـمعها (( إن الله لا يصلح عمل المفسدين )) (12) وسنن الحق سبحانه في أمثالهم جارية والزمن كفيل بإثبات الحق وإظهاره . فالمصالح الدعوية إن لم تقم على ربانية صادقة مخلصة وتمييز للثوابت عن المتغيرات والمتغيرات عن الثوابت بفقه دقيق وتأصيل عميق، وإلا كانت بداية انحراف وزيغ وفتنة للدعاة تذكيها مع الأيام حركات فاتنة في صفقات غابنة لا مربح لأحد إلا أعداء الدعوة ودعاة السوء والفتنة. |1|2| ـــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي د. عبد المجيد الشرفي ص118. (2) انظر : الفكر السامي للحجوي 1/286 . (3) الموافقات 5/177 . (4) الأنعام : 108 (5) البقرة :179 (6) انظر: الموافقات 5/180و181 . (7) إعلام الموقعين 3/109 بتصرف . (8) الموافقات 5/177 . (9) انظر : الموافقات 5/177و233 ، الأشباه والنظائرللسيوطي ص322-325 ، نظرية المصلحة في الفه الإسلامي د. حسين حامد حسان ص193-199 . (10) انظر : مدخل إلى التنمية المتكاملة د. عبد الكريم بكار ص 155 . (11) الشرح والإبانة ص 143 نقلاً عن مناهج أهل الأهواء للعقل ص 90 . (12) يونس: 81 .
|
|
|
|
|
|
|