في هذه الأيام التي يمر بها عالمنا الإسلامي بأحرج أوقاته ، ويعيش فيها حاسم لحظاتـه ، ويضيق فيها عليه الخناق من داخله ، ومن خارجه ، ويدفع به دفعاً إلى طريق وعر حالك لا يعلم نهايته إلا الله ؛ تشتد حاجته إلى علمائه المخلصين ، ليبثوا فيه روح الثقة بالله ، والأمل بالمستقبل ، ويعيدوا بناء ما اندرس من ملامح شخصيته الإسلامية تحت ركام الأفكار والمذاهب التي تتدفق عليه من كل مكان ، وينتشلونه من دوامة الانهزامية والتخاذل التي شرقت به وغربت وهي تحمله إلى صحراء التيه والضياع ، لتفقده ما تبقى له من معالم دينه ، وبقايا عزته.
إن هؤلاء العلماء الذين أتحدث عنهم ، ليسوا أولئك الذين يحملون العلم الشرعي فقط ، لكنهم ذلك الطراز النادر والنوع الرفيع من العلماء الفقهاء ، الذين أدركوا عظم تبعة مسؤولية حمل العلم الشرعي ، و مسؤولية حمل الأمانة ، فباعوا أنفسهم لله ، ولم يهتموا بعرض من الدنيا زائل لأنهم علموا ( إن الله اشترى مـن المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) التوبة : 111 ، فصدعوا بكلمة الحق ، ووقفوا في وجه تيارات الباطل ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، فكان لهم في كل ميدان سبق ، وفي كل صراع موقف .
إنهم العلماء الذين تلقوا ميراث النبوة ليس في حمل الدين وتبليغه فقط ، ولكن في الجهاد فيه أيضاً ، هم الذين تخرجوا من مدرسة النبوة العملية ، تلك المدرسة التي خرجت الأئمة الأربعة : مالكاً ، والشافعي ، وأبا حنيفة وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل ، وشيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمهم الله ـ وغيرهم من علماء السلف ممن لم تمنعهم قوة الباطل ، ولا جبروت الطغيان ، عن الجهر بالحق والثبات عليه ، التزاماً بأمر الله ، وتمسكا بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم مهما لقوا في سبيل ذلك .
تداعت هذه الخواطر إلى ذهني وأنا أتلقى نبأ وفاة سماحة الوالد العلامة الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله ابن باز ـ رحمه الله ـ و إسلامه الروح إلى بارئها ، وهو في ساحة الدعوة إلى الله لم يمنعه مرضه ، ولم يحل كبر سنه بينه وبين القيام بواجبه تجاه ربه ، ودينه وأمته حتى آخر لحظات حياته .
لقد كان رحمه الله من المعالم الدينية المرجعية البارزة ، ألقى الله محبته في قلوب الناس حتى كان يلقب دائما بالوالد ، وهو لقب لم يطلق على أحد غيره من قبل ولا من بعد،واجتمع على الأخذ منه المسلمون بمختلف مشاربهم ، وتنوع أفكارهم ، وتباين بلادهم ، وهم لا يكادون يجتمعون على أحد .
ولهذا دلالته الكبيرة في أنه ـ رحمه الله ـ كان عالماً فقهياً ، لا يتعصب لرأي ، ولا يتحزب لجماعة ، منهاجه الاعتدال ، ومرجعيته الكتاب والسنة ، دون إغفال لطبيعة العصر ، ومستجدات الظروف ، فقد جمع بين فقه النص وفقه الواقع .
فرحمة الله على شيخنا ابن باز وأسكنه فسيح جناته ، وأمد بالعون والثبات على الحق من تبقى من علماء هذه المدرسة النبوية العظيمة في عالمنا الإسلامي ، وأكثر منهم بقدر حاجة الأمة إليهم .
آخر الكلام:
قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا يقيض العلم انتزاعاً ، ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ) ، أخرجه البخاري ، كتاب الفتن، وكتاب العلم ـ ، فهل ترانا في زمن قبض العلم ؟؟