سألتني وألحت عليُ بالسؤال الذي حاصرتني به لسنوات طويلة كلما التقينا ، أو تحادثنا : ترى ما هي الغربة ؟ غربة الزمان ؟ أم غربة المكان ؟ غربة الأهل ؟ أم غربة الوطن ؟ غربة الروح ؟ أم غربة الفكر ؟ أم تراها غربة المبادئ والقيم ؟ أم هي ذلك كله جميعاً ؟
لماذا يغتالنا الشعور بالغربة ونحن بين أهلنا وأحبائنا ، على أرضنا وفي أوطاننا ؟
غربتي غربة المشاعر والروح وإن عشت بين أهلي وصحبي
لماذا يجتاح ذلك التصحر الرهيب أعماقنا ويغتال أجمل ما في دواخلنا ؟ ما سر ذلك الجفاف القاسي الذي يغمر أرواحنا ؟ والقلق الصامت الذي يدفعنا للبحث عن شيء لا ندري ما هو ؟ لماذا تهفو النفس إلى شيء لا تجده ؟ ويرنو البصر نحو أفق لا نهاية له ؟
الكثير الكثير من الأسئلة والتساؤلات التي تحملها نظرات تمتزج فيهـا الحيرة بالقلق، ويعشعش فيها حزن دفين ، وألم قديم متجدد يغتال الكلمات .
أجرجر وحدتي في كل حشد وأحمل غربتي في كل جمع
الغربة يا غالية .. هي بعض ذلك أو كله وزيادة عليه . هي جزء من تكويننا الروحي والنفسي ، تقطن في دواخلنا ، تغيب وتظهر ، وتنمو وتضمر بقدر وعينا وحجم إدراكنا ، ومدى قدرتنا على التلاؤم مع الواقع حولنا ، أو انفصالنا عنه . تزيد بقدر محاولتنا أن نسمو بذواتنا ، ونعلوا بقيمنا ومبادئنا ، ونمارس إنسانيتنا وإسلامنا حقاً ، معنى ومبنى ، في عالم أخلد إلى الأرض وانغمس في مادياته ومصالحه وأهدافه وتطلعاته اللاهثة أبداً خلف السراب .
الغربة .. أن نتحدث بلغة لا يفهمها أحب الخلق لنا ، ونتكلم بصوت لا يسمعه أقرب الناس منا .
الغربة .. أن نعيش يومنا دون حلم ننتظره ، أو أمل نترقبه ، بعدما تبخرت أحلامنا تحت وطأة الواقع كقطرات ندى لامستها أشعة شمس الصباح ، وتلاشت آمالنا كسراب لملمته شمس المغيب ورحل معها .
الغربة .. أن نبحث عن جرعة محبة صادقة لم يكدر صفوها مطامع مادية ، أو مصالح شخصية فلا نجد سوى الجفاف وقحط المشاعر فنطوي على الظمأ .
الغربة .. أن نبحث عن حضن دافئ يضمنا بحنان ونشعر عنده بالأمان في لحظات ضعفنا وانكسارنا فلا نلقى إلا لسعة الصقيع ، وجمود القسوة .
الغربة .. أن تبحر مراكب صدقنا في خضم بحر لجي متلاطم من الكذب والزيف .
الغربة .. أن نكون مختلفين في وسط قوالب بشرية متكررة لا تقبل إلا صورتها ، أن نعيش العمق في زمن السطحية والتفاهة .
الغربة .. أن نفتش عن ذواتنا في كل ما حولنا فلا نرى إلا الفراغ الممتد .
أن نبحث عنا فينا فلا نجدنا في دواخلنا ، أن يقيدنا الزمان ونحن خارجه ، ويشدنا المكان ونحن بعيدين عنه .
الغربة .. هي ذلك كله ، أو بعضه ، أو أكثر منه بكثير مما يعتمل في دواخلنا ولا نقوى على البوح به ، أو نجرؤ على الحديث عنه ، تمتد لتغمر عمرنا كله وتنخر أعماقنا بصمت ، أو تنحسر لتستوطن جزءاً خفياً من أرواحنا ومشاعرنا .
فكل منا يحمل بذور غربته في داخله ويعيشها بأسلوبه الخاص ، وفق وعيه وإدراكه ومصداقيته مع نفسه ومع من حوله.
لكن ذلك كله يتلاشى حين تلامس جباهنا الأرض في لحظة سجود مخلصة لله رب العالمين .
ذلك كله يذوب مع كلمة (يا رب) تخرج صادقة من القلب تعانقها نظرات محلقة إلى السماء . فمع الله وحده نجد الأنس ونشعر بالأمن ونعيش الاطمئنان ، لأننا نعثر على حقيقتنا المفتقدة .
وقفة ..
كل يريدك لنفسه إلا الله يريدك لنفسك .
آخر الكلام ..
يقول الشيخ الدكتور عايض القرني :
طويل الشوق يبقى في اغتراب
فقير في الحياة من الصحاب
ومن يأمنك يا دنيا الدواهــي
تدوسين المصاحب في التراب