للخطاب صوره المتعددة الأشكال ، المختلفة الأبعاد .. منها المقروء : كتاباً ، أو مجلة، أو صحافة ،أو بحوثاً علمية .
شعراً ، أو نثراً ، قصة أومقالاً .. وغيرها كثير ..
ومنها المسموع : ندوة ، أو محاضرة ، أو لقاء ، أوأغنية أوغيرها ..
ومنها المشاهد : برامج تلفازية ، مسلسلات ، أفلام ، تقارير ، أخبار ... وهكذا..
ولكل خطاب منها طروحاته : الدينية ، أو الثقافية ، أو الأدبية ، أو السياسية ، أو الإجتماعية ، أو الأخلاقية ... وغيرها توصلها إليك مباشرة ، أو بطريق غير مباشر .. بصورة عميقة الطرح ، أو سطحية الأبعاد .. لكن لا يوجد قط خطاب لا هدف له ، ولا مضمون فيه ، ولا غاية من ورائه .. فكل خطاب منها يعبر عن توجهات ، ويدعو إلى فكرة وقناعات ورسم ملامح مشروع .. في محاولة لتغيير الواقع ، وتبديل الأفكار ، وإعادة صياغة المجتمع من جديد وفق منضومة يرى أصحابها أنها الوضع الأفضل .
لقد تعددت الطروحات ، وتنوعت الخطابات، وكثرت الدعاوى والشعارات، وقد نالت المرأة وقضايا المرأة النصيب الأوفر من ذلك كله ...
إن لم نقل بأنها كانت الخطوة الأولى والأقوى في طريق عملية التبديل الثقافي والتغيير الاجتماعي .. فموضوع المرأة من أهم الموضوعات التي دار ويدور حولها النشاط الفكري للمفكرين العرب والمسلمين، بل والغربيين في العصر الحديث .. وقد تراوحت مواقفهم بين مسوغ مدافع ، وناقد موجه ، ومشجع محرض، ومتذبذب بين هذا وذاك ..
إذاً ، فهناك طروحات ، وحركة فكرية ومشروعات ثقافية وحضارية تدور حول محور معين هو المرأة ، وأوضاع المرأة ، وقضايا المرأة ، وتفعيل دور المرأة .
وتكمن الإشكالية في أن أصحاب الطروحات المعاصرة على مختلف توجهاتهم ، وتباين مقاصدهم قد شغلوا بقضايا جزئية ، أوشكلية مختلفة ، أبعدتهم عن التعامل مع الواقع الذي الذي تعيشه المرأة ، فكان أن ابتعدوا في طروحاتهم عن أصل القضية ، وتحرير المسألة ، وحلها حلاً جذرياً حقيقياً يتسم بالموضوعية والفعالية ،لأنهم فصلوها عن قضايا المجتمع ، وأوضاع الأمة وتراثها الديني والاجتماعي ، وتعاملوا معها ككيان منفصل عن كل ما حوله .
فهل أثمرت هذه الحركات الفكرية والثقافية بطروحاتها المختلفة ووسائلها المتنوعة .. تقدماً حقيقياً طيلة السنوات الماضية .
أو أنها مازالت تجتر الاشكاليات نفسها ، مع تغيير في المسميات ؟ .. وإعادة طرح الأسئلة ذاتها حول التحديث ، والهوية ، والتقدم ، والنهضة .. والصحوة ، والتغييب ، والشهود ، والإسهام الفعال ، والمشاركة في صنع الحاضروبناء المستقبل؟
الملحوظة العامة على الدراسات والكتابات التقدمية المعاصرة عند حديثها عن المرأة أنها تنطلق من أرضية بعيدة عن الواقع الذي تتناوله ، وتحمل في الوقت ذاته تمرداً عليه ، وانتقاداً حاداً له ، بل رفضه .. من خلال تلميحات ، أو تصريحات تشير إلى أن السبب الرئيس وراء هذا الوضع المتردي للمرأة المسلمة هو الإسلام .. الذي رسخ مجموعة من العادات والتقاليد والأفكار التي أسهمت إلى حد كبير في الإساءة إلى المرأة ، وتغييبها عن الواقع الحضاري للأمة بتعطيل دورها فيه .
فهذه الكتابات والطروحات نظرت إلى الإسلام نظرة سلبية وبالتالي فقد دعت إلى اتخاذ موقف رسمي حاسم من هذه القضية بأبعادها الاجتماعية والشرعية ، إلا أن موقفها من الأحكام الشرعية لم يكن على صورة واحدة ، فالفئة المغالية منها دعت صراحة إلى فصل التعاليم الدينية عن واقع الحياة ، وتحويلها إلى مسألة خاصة بين الإنسان وربه كما هو الحال بالنسبة للديانات الأخرى . ورأت أن الطريق الأمثل هو التحرر من القيود النفسية ، والفكرية، والشرعية كلها بصورة سافرة فيها جرأة على الدين وخروج على التقاليد ، ومصادمةُ للواقع.. ومحاولة جادة لتغريب المجتمع وتحديثه تحت شعارات : تحرير المرأة ، والمساواة بين الجنسين ، وحقوق المرأة ، وغيرها من الشعارات .
أما الفئة المعتدلة منها ، وهي الفئة التي مازالت مرتبطة بالإسلام عاطفياً .. فهي وإن تعرضت للواقع بالنقد المباشر تارة ، والمستتر تارة أخرى.. إلا أنها تتفق مع الفئة الأولى بضرورة التحرر من قيود الواقع الحالي وتغيير الوضع العام ، ولكن من خلال إعادة قراءة النصوص الشرعية ، وفهمها فهماً جديداً يتناسب مع الحضارة المعاصرة ، وإخضاعها للتعددية في قراءة النص الديني وفهمه ، احتراماً للحرية العقلية ، والفكر المتفتح ، وكسر القيود النفسية والعقلية التي مورست عبـر أجيال تحت وطأة ما يسمى بـ ( قدسية النص) و
( سيطرة النص).. ومن ثم تعديل القوانين الخاصة بالمرأة بما يتناسب مع الحضارة المعاصرة.
وفي مقابل تلك الفئة تأتينا الفئة التي تبنت المشروع الإسلامي ... والتزمته أسلوباً لإنقاذ المرأة والمجتمع والمحافظة على هويته الإسلامية. و تقلدت مهمة تولي طروحات الحوار بما فيها من الرد ، أو الدفاع .. وهؤلاء بدورهم انقسموا إلى فئات جمعهم حبهم للإسلام ، وحماسهم لقضايا الأمة... وتوليهم منبر الخطاب..
فمنهم أصحاب التخصصات العلمية أو الأدبية ، الذين نالوا قسطاً من الثقافة الإسلامية العامة وقدراً من العلوم الشرعية الخاصة والكثير الكثير من الحماس والعاطفة الإسلامية والرغبة في نصرة الدين وانتصاره .. مما جعلهم يتركون مواقعهم الأصلية ، وثغورهم الحساسة ويتحولوا إلى وعاظ ، ومفتين ، ومرشدين ، فاتسمت طروحاتهم بردود الفعل الوقتية، والطروحات الانفعالية التبريرية ، ومحاولة الدفاع عن قضايا المرأة برسم الصور المظلمة للمرأة الغربية في للحضارة المعاصرة وعرض سلبياتها وتشجيع العقلية الذرائعية ، تسويفاً وتبريراً.
وكأن الإسلام لا يظهر نوره ولا تدرك قيمته إلا بمقارنته بالوجه السيىء من حضارة اليوم... وفي هذا إجحاف للإسلام وإساءة له .. بالإضافة إلى أن هذا النوع من الخطاب وقتي التأثير .. ضعيف التقبل ، يؤصل روح التخاذل ، وجمود العقلية .. والإنهزامية النفسية .. والرضوخ للواقع .. واستمرارية الناس في التعامل مع واقع هجين .. بعيد عن حكم الإسلام المتكامل .. وروح الحضارة المعاصرة التي تحاصره من كل مكان..
وفئة أخرى اختارت الخطاب العلمي والطروحات الأصولية العميقة .. وكأنها تتعامل مع مجتمع قوامه علماء و مفكرون ، وباحثون ، ومتخصصون في العلوم الشرعية .. فكان تعاملها مع المجتمع من خلال أبراج تحصنت فيها بفتاوي فقهية ، واجتهادات شرعية لعلماء السلف دون محاولة منها لإسقاطها على الواقع المعاصر وربطها به .. في محاولة لتجميد امرأة اليوم في إطار فتاوى وأحكام تعاملت مع مجتمع تفصلنا عنه قرون طويلة .. متناسية أن الإسلام بناء متكامل روعي فيه الاستمرارية والدوام ، والانسجام مع الفطرة الإنسانية والاحتياجات البشرية المتجددة وفي الوقت ذاته تلازمه مع الطبيعة البشرية ، وطبيعة خلق الكون ، ومقاصد الشارع فهو نمط خاص متميز لا يقاس بما قبله ولا بما بعده ، لا يضيره مخالفة الناس له ، ولا يعيبه معاكستهم الفكرية والثقافية له. وهذا كله يمنحه حركة تلازمية ، ونبضاً مستمراً ، بعيداً عن الجمود والتصلب ، أو الذوبان والاضمحلال ..
طروحات مختلفة إلى درجة التضاد والتنافر تضع المرأة المسلمة أمام الخيار الصعب وهو الانشطار الثقافي ، إما أن تختار الدين ، وتنسحب من الحياة المعاصرة ، .. أو تختار الدنيا ، وتدير ظهرها للدين وتنسلخ منه قلباً وقالباً.
معادلة صعبة ليست من الإسلام في شيء ، ولا تمت لها للتقدم بصلة ، لأنها تؤدي إلى ضياع المرأة وزعزعة المجتمع وتفريقه إلى طوائف وشيع يعادي بعضها بعضاً ويحاربه، أو يجافيه ويقاطعه وهذا ما حدث فعلاً .. فقد شغلت كل فئة منا بالأخرى نقداً وتجريحاً ، واتهاماً .. وتركت عامة النساء يغرقن في دوامة تيارات فكرية وثقافية تحاصرهن من كل مكان ، ولا يعرفن كيف يواجهن هذا الحصار الذي يسعى لتذويبهن في خضم عولمة لا تعرف أبعادها.
وهذا، لا يعني عدم وجود طروحات ناضجة وواعية تسعى إلى تحقيق المعادلة الصحيحة في العمل على حماية المرأة وإصلاح المجتمع وتنقيته مـن رواسب عادات وتقاليد وأفكار دخيلة عليه ، وفق مفهومات إسلامية صحيحة تعيد بناء العقلية الإسلامية المعاصرة وتفعيل دورها في تحقيق مجتمع إسلامي متكامل يتعامل مع الواقع بموضوعية وتأخذ المرأة فيه دورها الحقيقي الفعال .
لذا ، فقد رأينا فتح ملف تفعيل دور المرأة المسلمة الحضاري بين المشروع الإسلامي والمشروع العلماني في محاولة منا لتحريك الموضوع بشكل جدي فعال يبلور الفكرة ، ويوضح الصورة ، ويحدد الملامح ، ويعين المرأة على أن تتخذ الموقف الصحيح ، بوعي وقناعة وثقة وحصانة إسلامية قوية . وينتقل بالمشروع الإسلامي من حيز النظرية إلى واقع التطبيق العملي ..
آخر الكلام ..
إن أعددت رجلاً فقد أعددت فرداً ، ولكن إن أعددت امرأة فقد أعددت جيلاً كاملاً ..