الظلم .. كلمة قليلة الحروف ، قاتلة المعاني .. لا تصحب معها إلا الدمار .. تسحق في فلكها أحلاما ، وآمالاً ، وقلوباً ، وعقولاً ، ومبادئ وقيماً ، أفرادا ومجتمعات .
والظلم في حقيقته قرين للظلام ، فهما من أصل واحد في اللغة ، والمنشأ،والطبيعة ؛ فالظلام يحل حين يرتحل النور ، والظلم يقبل حين يغيب ضياء العقل ، وصفاء النفس ، وسلامة الصدر، وقبل ذلك كله صدق الإيمان ، والالتزام بشريعة الله ومنهاجه . فما هو إلا مجاوزة للحق ، وانحراف عن العدل ، وتعد على حدود الله .
قال تعالى ( إن الإنسان لظلوم كفار ) سورة إبراهيم : آية (34) . لقد تحدث القرآن الكريم عن الظلم والظالمين في آيات كثيرة جـداً ، تناولت أنواع هذا الظلم ، والصور التي يقع فيها، والظواهر السلوكية التي ترافق وقوعه ، وطبيعة العقوبات التي أعدها الله وتوعد بها أولئك الظالمين .
فالإنسان ـ بصفة عامة ـ يتصف بالظلم ، إذ قلما ينجو إنسان من حالات ظلم يعيشها ، وتتفاوت أبعاد هذا الظلم ، وآثاره على الإنسان نفسه ، بين ظلم يوقعه على نفسه ، وظلم يصيب به غيره ، أو يمارسه هذا الغير عليه .
والظلم بصوره الثلاث السابقة ، مع تباين درجاته ، واختلاف أشكاله ، نابع من ظلم الإنسان لنفسه ، فالظالم أول ما يهم بالظلم ، فإنه يظلم نفسه ، قبل ظلمه لغيره ، فالظالم أبدا مبتدئ في الظلم ؛( إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون) سورة يونس آية (44) .
والظلم لا يخرج أبدا عن دائرة تجاوز العبد لحق من حقوق الله ، من : عقيدة ، أو عبادة ، أو طاعة في أمر ، أو نهي عن معصية .
أو في مجال حقوق العباد ـ المادي منها ، أو المعنوي ـ بتجاوزها ، أو هضمها ، أو مصادرتها. وقد يكون في مجال الحياة العامة بظلم لأي كائن حي .
والظلم باتساع مجاله ، وتعدد صوره ، وتنوع أشكاله ، يبقى سوء أدب مع الله ، وتعد على حدوده . وقد يصل إلى درجة ممارسة الظالم الندية لله ـ في تحكمه بمصائر الخلق ، وقدرته عليهم ـ كما فعل فرعون حين قال ( أنا ربكم الأعلى ).
ولا يصل الإنسان إلى درجة الظلم لنفسه ، أو لغيره إلا في حالة ضعف الإيمان ـ إن لم يكن غيابه ـ ، وتجاهل قدرة الله عليه ، أو نسيانها تحت ركام توهم القدرة ، والتمكن ، والقوة ، والشعور بالاستعلاء .
ولأن الظلم من أعظم الذنوب التي يقع فيها الإنسان ، لما فيه من تدمير لكيان الإنسان ، وتضييع للحقوق ، وإفساد للحياة ؛ فقد حرمه الله جلّ وعلا على نفسه وهو الحكم العدل الخالق، الذي له الحق المطلق في أن يفعل ما يشاء بعباده ، وفعله فيهم عدل كله ، ليؤكد لهؤلاء الخلق أن حرمته بينهم أعظم . عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى انه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً ، فلا تظالموا ..) أخرجه مسلم في صحيحه من رواية أبي ذر. قال صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة) رواه جابر بن عبد الله ، متفق عليه.
وقد يكون من أقسى صور الظلم وأبشعها ، مما يوقعه الإنسان على نفسه أولا ، ثم على غيره ، قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق . والقتل الذي أعنيه هنا ، ليس القتل المادي الذي تزهق به الروح لتنتقل من ظلم العباد إلى عدل الله ورحمته ، ذلك أن هذا النوع من القتل له جزاؤه المادي الواضح في الدنيا بالقصاص ، وفي الآخرة العذاب الشديد والخلود في النار ، مما قد يردع الكثيرين عن ممارسته ؛ لكن القتل الذي اقصده هو القتل المعنوي ، أو الوأد المعنوي للإنسان ـ الذي تكثر ممارسته ، دون أن يشعر القاتل بأنه قد ارتكب جرماً عظيماً ـ حينما يسقط حق الإنسان في الحياة ، وتصادر حريته ، ويلغى حقه في الاختيار ، ويحال بينه وبين القيام بأمر الله ، ومسؤولية أمانة التكليف ، ويحكم عليه بالسجن المعنوي ـ الذي لا جدران له ، ولا قضبان فيه ـ لكنه الحبس داخل قرارات تلغي كيانه الإنساني ، وتمحو وجوده الشخصي ، وتحيله إلى الميت الذي يمارس دوراً رسم له بين الأحياء ، دون أن يملك حتى القدرة على الحلم ، بعدما حطمت أحلامه ، ومزقت أمانيه ، وسحقت مشاعره ، واخرس لسانه، وكبلت يداه ، بل قضي على وجوده الذاتي كله ، دون مسوغ شرعي ،أو مبرر منطقي، أو جرم مقترف، سوى الهوى ، وبطر نعمة القدرة والسلطان ، وتحكم تقاليد جاهلية،وأعراف فاسدة قضى عليها الإسلام بعدله ، وعظمته ، بتكريمه لهذا الإنسان ، وتحريمه من ربق قيود العبودية لغير خالقه .
ويبقى من أعظم الظلم سكوت المظلوم على الظالم ، فالسكوت على الظلم عون للظالم على ظلمه، كما أن الإستسلام للقهر يزيد الطغيان والاستبداد .
قتامة يأس ..
يقول الشاعر :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفــةٍ فلعلـــةٍ لا يظلم
فهل الظلم فعلاً سجية في الناس تظهرها القدرة ، والسلطة ، والتمكن .؟؟ أو هو استثناء في قاعدة العدل ، لتأكيدها ، وتثبيتها ؟!
سؤال كثيرا ما حاصرتني أبعاده وأنا أرى الظلم يسود حياتنا ، ويطغى على وجودنا ، ويلتهم كياننا كله ، ليدمر في طريقه كل حلم ، وكل أمنية ، ويحاصرنا بقيود غير مرئية ، يقضى بها على كياننا الإنساني ، وتصادر بها حرياتنا ، وحقنا في الحياة ، وفي الاختيار ، لنسجن داخل أنفسنا كائنات تعيش أيامها ، دون أن تحياها .. تسيرها خطى لم تختر طريقها ، تقودها إلى وجهة لا تريد أن تقصدها .
إنه الظلم .. الذي يقتل في الإنسان إنسانيته ، ولكن دون أن يميته !!.
الظلم .. إرث يتهاداه الطغاة جيلاً بعد جيل .. فلسفة يبلورها كل طاغ منهجاً يقضي به على كيان من هم دونه ، ليشعر بقيمة نفسه ، بقدرته ، وتمكنه من سحق الآخرين .
إشراقة أمل .. ..
الظلم .. طريق معبد بأحلام الضعفاء ، وآمال البسطاء .. وحقوق المضطهدين ، وحريات المقهورين .. يقود إلى سخط الله ، وعقابه . قال تعالى ( ولاتحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم ) سورة إبراهيم آية (42) . وقال صلى الله عليه وســلم :( إن الله يملي للظالــم فـإذا أخـذه لم يفلته ) ثم قرأ: ( وكذلك اخذ ربك القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) سورة هود آية 11 متفق عليه، رواه أبو موسى .
آخر الكلام ...
ويبقى المظلوم على ضعفه ، وعجزه ، وقلة حيلته ، أقوى من الظالم بجبروته ، وسلطته، وقوته، لأن الله مع المظلوم حتى يؤدي إليه حقه ، والظالم لا يدري لسخط من يتعرض ، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين بعثه إلى اليمن : ( اتق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجـاب) متفق عليه ، رواه ابن عباس. وقال صلى الله عليه وسلم : (ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول الرب عز وجل لأنصرنك ولو بعد حين) أخرجه أحمد في مسنده ، من رواية أبى هريرة .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله :
إذا ما ظالم استحسن الظلم مذهبا ولج عتوا في قبيح اكتسابــه
فكله إلى صرف الليالي فإنـهـا ستدعي له ما لم يكن في حسابه
فكم قـد رأينا ظالما متمــردا يرى النجم تيهاً ظل ركابـــه
فعـما قليل وهـو في غفلاتـه أناخت صروف الحادثات ببابـه
فأصبح لا مال ولا جـاه يُرتجى ولا حسنات تلتقي في كتـابـه
وجوزي بالأمر الذي كان فاعـلاً وصب عليـه الله سوط عذابـه