مبدأ .. وقيم .. هي الحياة .
موقف .. واختيار ..هو الإنسان .
ومع ذلك ، فكثيرا ما يتراجع الإنسان عن اتخاذ الموقف ، والالتزام بالمبدأ ، على الرغم من قناعاته التامة ـ أو هكذا يدعي ـ بالقيم التي اختارها برضى ، وآمن بها بعمق .
فما هو يا ترى سر هذا التراجع ..؟
أهو الخوف من تحمل تبعة الموقف ، والهرب من مواجهة الواقع ..؟
أم هو العجز عن مواجهة ما بداخل النفس ، والتراجع أمام الآخرين ..؟
أم هي الانهزامية النفسية ، التي ورثت تبعية الرأي ، و سلبية الموقف وإن خالف حقيقة القناعات ، تهربا من تحمل مسؤولية اتخاذ القرار ..؟
أم هي في حقيقتها كانت مجرد طروحات نظرية ، لا موقع لها في أرض القناعات ..؟
تساؤلات كثيرة كانت ، و مازالت تدور في ذهني ، وأنا أرى أصحاب القناعات الصحيحة، والمبادئ الرائعة ، والقيم الإسلامية النبيلة ، ينهزمون في مواقفهم العملية ، إرضاء للناس ، أو تجنبا لرد فعل ؛ محققين بذلك التناقض الواضح بين النظرية والتطبيق ـ وهم أولى الناس بتأصيل المواقف الثابتة في طرح الحق ، والدفاع عنه ، وإن خالف الرأي السائد ـ.
ملتمسين لأنفسهم الأعذار ، والتبريرات في تنصلهم من تحمل مسؤولية الكلمة ، ومسؤولية الموقف ، مغلبين مصالح وقتية ، أو مخاوف متوهمة ،على إظهار الحق المبين ، والتمسك به ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون . كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) سورة الصف /آية 2ـ3 .
ناسين أو متناسين قول الحق تبارك وتعالى ( أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد) سورة الزمر /آية 36 .
إن المعرفة النظرية للحق ، أو الإذعان له ، لا يكفي ( وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) سورة البقرة /آية 146 . لكن لابد من الإعتزاز به ، ونصرته ، والدعوة إليه ، وتحمل الأذى في سبيله ، ومن أجله ؛ فطريق الحق مفروش بالأشواك ، محفوف بالمكاره ، مليء بالعقبات ، والمعوقات ، المادية والنفسية ، الحقيقية والمفتعلة . وهـذه سنة الله في خلقه ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ، لذا، فقد أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم على ( أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) ـ خرجه مسلم ـ .
ومن هنا كان الصدع بالحق ، والمصارحة بالمبادئ ، و القيم ، كلمة وموقفاً ، تمثيلاً حقيقياً لمدى تأصل جذور العقيدة الصحيحة في نفس المسلم؛ فهو قد أسلم أمره إلى الله توكلاً عليه ، واعتمادا على نصرته ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) سورة إبراهيم /آية 12ـ ، فمن التزم الحق لا يضره أن يقف في ميدان الصراع وحده ،لأنه إن عاش عاش سعيدا به ، وإن مات مات شهيداً في سبيله، و الله معه في ذلك كله .
وما ضاع الحق في هذا الزمن ، إلا لأن كثيرا من أهله صانعوا أهل الباطل ، وهادنوا الفكر السائد ، وإنهزموا أمام الموروثات و التقاليد المنحرفة ، وأستسلموا للعقلية الذرائعية ، التي تعفي من تحمل مسؤولية التقصير ، والإنهزامية ، ومحاولة البحث عن أصولهما ، ومعالجة أسبابهما ؛ فضلاً عن تمثل الولاء للمبدأ ، وللقيم ، و للفكرة . ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) سورة الأنعام /آية 116 ـ قال صلى الله عليه وسلم :(لا تكونوا إمعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنا ، و إن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا) ـ خرجه الترمذي ـ .
إن هذه العقلية الذرائعية التي أشار إليها الحديث النبوي ، وإن أعفت الإنسان من المسؤولية في القيام بالحق أمام نفسه ، بالمغالطات النفسية ، والحيل اللا شعورية ، في تبرئته من التقصير ، والخطأ ؛ فإنها لا تعفيه من تحمل تبعاتها أمام ربه ( وقفوهم إنهم مسؤولون) سورة الصافات/آية24 ـ في يوم لا عذر فيه ، ولا حجة ( هذا يوم لا ينطقون . ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) سورة المرسلات /آية 35 ـ36 ـ.
ومسؤولية المسلم ومن منطلق النص القرآني ، و التوجيه النبوي ، لا تقتصر على أفعال الفرد الشخصية ، أو مواقفه الذاتية ، لكنها تتعدى إلى إحساسه بالمسؤولية تجاه الجماعة، والأمة ؛ و دوره الفعال فيها إيجابا ، بالقيام بالحق ، والصدع به ، والدفاع عنه ، والقيام بالتكاليف الشرعية والدينية.
أو سلبا بالإنهزامية أمام الكثرة ، والتخلي خوفا من النتيجة ، والتقوقع داخل شرنقة موقف الآخرين .
وما قيمة الإنسان ، وحياته ، إن لم يكن له عقيدة يعتنقها، وقيم يؤمن بها ، و حق يناضل من أجله ؛
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا
إن الحياة عقيدة وجهادا
ما قيمته إن إستسلم للوهن ، وغرق في الكلالة ، وفقد الهدف الذي يعيش له ،و يناضل في سبيله ، ويبذل نفسه من أجله ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء ويتوكل على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) سورة النحل/آية 76ـ.
وما ضيع الحق ، وضيعت الأمة إلا يوم سادت العقلية الذرائعية ، والإنهزامية النفسية ، وسكتت الأصوات ، عجزاً ، وتخاذلاً ، وخوفاً ، وهيأت المجتمعات نفسياً ، وفكرياً ، وعملياً ، لتقبل الواقع ، والرضوخ له ، ومورس أضعف الإيمان في الإنكار .
سؤال ولكن ألف معنى بطيه
هل العمر في هذي الحياة مخلد ..؟
مع تحية عاتبة إلى الإنسان الذي بهرتني طروحاته النظرية ... وخذلتني مواقفه العملية .