قال الحق تبارك وتعالى ( آلم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هـدى مـن ربهم وأولئك هـم المفلحون) البقرة / 1ـ5 .
القرآن كتاب الله الذي جعله هدى ونوراً ودليلاً ناصحاً مبيناً ، يفتح به القلوب ، ويشرح به الصدور ، ويطمئن به النفوس ، ويصلح به الحياة .
لكن من هم الذين يصلحون لاستقبال ذلك كله ؟ إنهم أصحاب القلوب المتقية ، التي أقبلت على الله صادقة سليمة مستجيبة ، تملؤها وحدة شعورية إيجابية فعالة ، إرتبطت فيها العقيدة الإيمانية بالعبادة والعمل والسلوك والأخلاق ارتباطاً عضوياً غير منفصم ، فتحولت حياة أصحابها كلها إلى عبادة متصلة استغرقت الإنسان كله وعلقت قلبه بربه وحده ، وسمت به إلى الغاية العليا .
وأنا أتأمل معاني هذه الآيات الكريمة أسقطتها على واقعنا المعاش فكانت لي معها الوقفات التالية :
الوقفة الأولى ....
سطحيتنا في فهم مقاصد ديننا الحنيف .... فالدين قد تحول عندنا إلى مجرد تمسك بصور من العبادات استغرقتنا وفصلنا بها مفهوم العبادة عن الحياة والعمل والسلوك ، فغاب التوتر الإيماني من قلوبنا ، وقلق المسؤولية من نفوسنا ، واستشعار الهدف الذي خلقنا من أجله من حياتنا ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون ) سورة الذاريات/آية56ـ حين تحولنا بالدين إلى قضية شخصية تبلورت من خلال مفهوم مغلوط تحول بها عن وجهها وحقيقتها وحصرها في نطاق الشعائر المحدودة، والعبادات البدنية والمالية فقط ، ولم يبق لها ذلك الأثر الفعال الذي يحكم النفوس ، ويضبط السلوك ، ويوجه الحياة .
الوقفة الثانية ...
سوء تعاملنا مع القرآن الكريم وما ورد فيه من أحكام تصلح الدنيا ، وتنجي في الآخرة .....
فتعاملنا مع القرآن أصبح تعاملاً جزئياً لا يتجاوز ظاهر السباق إلى باطنه ومراميه . فبتنا نعاني أمية عقلية فاضحة في تعاملنا مع القرآن الكريم ، أمية تعني ذهاب العلم به ، وعدم العمل بما فيه ، وهي الأمية التي أشار إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم في حواره مع زياد بن لبيد حيث قال : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال : ( وذاك أوان ذهاب العلم) قلت يا رسول الله : وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال : ( ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة ، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعلمون بشيء مما فيهما ) رواه : أبن ماجه، وأحمد والدارمي . فنحن نعيش اليوم حالة هجر حقيقي للقرآن ، أنكمش فيها الفكر والرؤية القرآنية في واقع حياتنا ، وتحول بالقرآن من مركز حضارة ، وصناعة للحياة ، إلى ركود وتحنيط ، مجرد قراءة لا تتجاوز الشفاه ، قطعنا بها صلة الآيات القرآنية بالكون ، وعزلناها بها عن واقع الحياة .
فهل أنزل القرآن لنتعبد بقراءة حروفه فقط . وقصره عند البعض على رمضان ..؟ التعبد بالتلاوة مطلب ضروري لما فيه من الأجر والثواب ، وهو مطلوب في رمضان وفي غيره لأننا مأمورون بذلك من قبل ربنا ، فصلة المؤمن بكتاب ربه ينبغي أن تبقى متصلة لا تنقطع ؛ لكن المطلب الأهم قد نص عليه منزل القرآن في قوله تبارك وتعالى ( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) ( كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته وليتذكرأولوا الألباب) سورة ص /29 ، ( ولقد نزلنا القرآن للذكر فهل من مدكر) سورة القمر 17 ، فالمطلوب إذاً هو الفهم والتدبر والعمل بهذا القرآن الذي يجعل الله فيه هداية للناس من الضلال، ودستوراً للخير ، وطريقاً للسعادة في الدنيا والآخرة ، وفارقا بين الهدى والضلال ، والحق والباطل ، فهو سبيل الحق ومنهج النجاة .
وهذا يعني أن نعيش في جو قرآني ، وسلوك قرآني ، وعقل قرآني ، ظاهر وباطن قرآني ؛ أن يكون القرآن أساس التوجيه إلى صنع الإنسان ، صنع النفس الإنسانية ، صنع الحياة الإنسانية ، أن نعود إلى التعامل السليم مع القرآن الكريم ، ونعيده إلى مركز الدائرة في ثقافتنا المعاصرة فيكون للقرآن الكريم الهيمنة التامة على عقولنا ، ونفوسنا ، وسلوكنا ، ونسلم له القيادة بكل طواعية ليمنحنا الهداية التي أنزله الله بها .
الوقفة الثالثة ....
إن سوء فهمنا لديننا ، وسوء تعاملنا مع كتاب ربنا ، انعكس بصورة موجعة على واقعنا ، فانحرفنا عن السبيل القويم ، وابتعدنا عن صراط ربنا المستقيم ، وغابت حقيقة الإسلام عن حياة المجتمع حين وقع أسير التخلف العقدي ، فضيعت الحقوق ، وفشا الظلم ، وصودرت الحريات ، وخفت صوت الحق في خضم ضجيج الباطل وزعيقه ، وظهر التناقض الواضح بين ما نقرأه في كتاب ربنا ، ونردده من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، والواقع الذي نعيشه بمجالاته المختلفة كلها . وإن كان الانحراف وما يحمله بين طياته من بعد حقيقي عن مقاصد ديننا ، وأحكام ربنا قد عم شؤون حياتنا كلها ، فإنه في موضوع المرأة كان أعمق، ومظاهره أوضح ، حيث ألغيت في حياة المسلمين العملية كثير من حقوق المرأة التي قررها لها الإسلام ، وامتهنت كرامتها ، وضيع كيانها ، ومورس الحجر النفسي والمعنوي بأبشع صوره عليها وتركت تلك الحقوق والمكانة والوجود حبيسة كتاب الله الذي يقرأ ولا يطبق ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي تردد ولا يقتدى بها ، وكتب الفقهاء التي تدرس وتتجاهل مضامينها . مع أن تلك الحقوق والمكانة لم تكتسبها المرأة من الظروف ، ولا من المجتمع ، ولا من قانون بشري ، وإنما هي منحة إلهية ، وتشريع رباني ، وحكم إلهي .
ولم تستطيع المرأة مهما كانت منزلتها العلمية ، أو مكانتها الأدبية ، أو وضعها الاجتماعي ، أو موقعها الجغرافي ، أن تحول بينها وبين الاصطلاء بنار الظلم ، وسعير القهر، الذي تعددت ألوانه ، واختلفت مظاهره ، وكثرت صوره ، وأن اتحد مصدره. وقع الظلم على المرأة حين خالف المجتمع الإسلامي المنهج الرباني عقيدة وعملاً ، حين خالف الإسلام في الطريقة التي ينبغي أن تعامل بها المرأة ، وأن تحيا وفقها .
من منطلق القاعدة التي وضعها من ساوى بين المرأة والرجل في الحقوق ـ حق الحياة ، حق الوجود ، حق المصير ـ والواجبات ، في حمل الأمانة ، والقيام بالمسؤولية ، فهما مكلفان شرعاً ، ومسؤولان قضاء وديانة ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) سورة التوية 71 ـ ( إنما النساء شقائق الرجال) ـ حديث نبوي ـ
وبعد هذا التكريم الرباني ، والعدل النبوي يأتينا من البشر من يصادر ذلك كله ظلماً وعدواناً بأمور ما أنزل الله بها من سلطان .
وللحديث بقية مع خطوة أخرى .