المدخل إلى فقه العمران الإسلامي
د. مسفر القحطاني
زوار : 1396  -   20/12/2007
 
 

تعيش الأمة الإسلامية تقاربا عظيما مع الأمم والثقافات العالمية الأخرى نتيجة التطور الهائل في وسائل الاتصال وأدوات التواصل المعرفي , وأصبحت حضارات الأمم الأخرى بما لها من  تأثير إعلامي وهيمنة فكرية واقتصادية وسياسية تستحوذ على مجريات التغيير والتأثير في مجتمعاتنا الإسلامية من خلال المد العولمي بكل أدواته المعاصرة , فبرزت في الأمة أجيالا انبهرت بالحضارات والقيم الغربية على وجه الخصوص , وضعُف الأثر الديني والقيمي في أنفسهم فكان لزاما أن تقوم المؤسسات العلمية والمجتمعية بإعادة التأهيل لعقل المسلم والمحافظة على دينه وقيمه بالعودة الصادقة الواعية إلى الرسالة الحضارية للإسلام والتي يمكن أن تقدم دورا رائدا في بعث الأنفس والعقول نحو مدارج التحضر والعمران البشري من جديد .
وفقه العمران لم يحظ منذ زمن باهتمام معرفي وتأصيلي لمفاهيمه و أدواته التنفيذية سواء كان هذا الاهتمام من خلال التدريس أو التصنيف أو التنزيل على واقعنا المعاش , وأهم منحى لرفع مستوى الفقه الحضاري لدى مسلم اليوم وتأهيل ثقته بدينه كعلاج لكل أزمات المجتمع والحياة ؛ هو بالعودة إلى  مقاصد التشريع الإسلامي وإعادة قراءة الأحكام الفقهية من خلال هذه المقاصد , واستخراج جوانب فقه التحضر منها, والوعي الفكري –أبتداءً- بها ليتسنى العمل وتنظيم الحياة على مقتضاها . وقد قسمت هذا المبحث إلى ثلاث مسائل , وهي :

المسالة الأولى: أولوية الوعي الحضاري .
كرّم الله عز وجل الإنسان على سائر خلقه بالعقل المدرك والروح الواعية، وجعله محور الرسالات السماوية، وميزّه في قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً))[الإسراء:70]. وانطلاقًا من هذا التشريف جاء التكليف الرباني للإنسان بمهمة العبادة لله عز وجل والعمارة للأرض، وأي خلل في أداء الإنسان لهذين الأمرين تصبح حياته مضطربة قلقة، وعيشه في ضيق وضنك.
وبناءً على ما سبق ذكره من تمهيدٍ نسلِّم بحقائقه ونشهد بوقائعه.. فإننا نجد أن المجتمعات في مسيرتها التاريخية إنما تتطور وتنمو وتقوى بفعل الإنسان ونضجه وتمام وعيه بهدفه الحقيقي في الحياة، وبإعماله سنن القوة والنصر والتمكين في الأرض.. ولا تنهار الأمم والمجتمعات وتضعف وتتلاشى إلى العدم أحيانًا إلا بسبب غياب أو انحراف معنى ذلك الوجود الإنساني، وهذا هو سرّ الحضارة عند قيامها أو انهيارها.
ومن أجل تكييف هذا القصد وبيان أهمية هذا الوعي الحضاري يجدر بنا أن نسقطه على واقع أزمتنا الراهنة التي تعيشها البلاد من جرّاء تلك الحوادث الإرهابية، وذلك التطرف الفكري المأزوم لنشخّص حقيقة الخلل الواقع ولا نتشاغل بالعرض عن توصيف المرض.
 إن الفترات الماضية بحوادثها الخالية التي مرّت بالأمة ألقت في روعنا نمطًا من التفكير جعلت آخر ما نفكر فيه -عند حدوث أزمة ما- أن نلوم ذواتنا, وعادة ما نهمّش تأثير أنفسنا فيما يحدث بنا من مشكلات؛ مع أننا نؤمن ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ))[الرعد:11]، ونقرأ قوله تعالى: ((أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[آل عمران:165].
 
إن من أساسات أزمتنا الراهنة في جميع المجالات الحياتية ؛ هي أزمة وعي في فهم الدين وفقه التدين، وخلل في معرفة الفرد بواجبات وحقوق الانتماء للمجتمع، بالإضافة إلى تلك الغشاوة المزمنة التي أفقدتنا رؤية المدخل الحضاري بالولوج في أزقة الوهن والولوغ في حضارات الوهم والعيش في وهد الماديات.
إن الوعي الحضاري الشامل لحاجات الإنسان والمجتمع هو رهان المستقبل للأمة المسلمة مهما بلغت من ذبول مادامت الأمة تملك نبع الحياة وإكسير النصر.. ومع هذه الأهمية القصوى للوعي الحضاري لا بد من تحرير هذا المصطلح وبيان مفهومه وحقيقته؛ ليتضح المقصود منه ويتمهد فهمه للتطبيق والعمل.. فـ(الوعي) من المصطلحات التي شاع استعمالها نتيجة للتطور الواسع في استخدامها، كما يظهر في مجالات شتّى، خصوصًا في القضايا الفكرية والثقافية.
وبالرجوع إلى أهل اللغة في بيان معنى الوعي.. يقول ابن فارس: «الواو والعين والياء: كلمة تدل على ضمَّ الشيء. ووعيت العلمَ أعيه وعيًا. وأوعيت المتاع في الوعاء أعيه..»، وهذا ما نجده أيضًا في قوله تعالى: ((وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ))[الحاقة:12] وقوله: ((وَجَمَعَ فَأَوْعَى))[المعارج:18]، وهي هنا بمعنى الجمع والحفظ.
وفي مرحلة لاحقة صارت الكلمة تستخدم بمعنى الفهم وسلامة الإدراك، وكان علماء النفس في الماضي يعرّفون الوعي بأنه: «شعور الكائن بما في نفسه، وما يحيط به»( ) ومع تقدم العلم وتعقدّ المصطلحات والمفاهيم أخذ مدلول (الوعي) ينحو نحو العمق والتفرع والتوسع، ليدخل العديد من المجالات النفسية والاجتماعية والفكرية.
ويمكن ضبط معناه بأنه «الإدراك العقلي والاطمئنان القلبي الواضح بمتطلبات الحاجة والفهم بواجبات العمل الذاتي»؛ وبالتالي فإن أي مشروع إنساني لابد أن يسبق بتفكير موضوعي يضمن سلامته وتوافقه مع سنن الحياة، والوعي المجرد من العمل -في وجهة نظري- سفسطة وخيال.
أما مصطلح (الحضارة)؛ فهو من المصطلحات التي تختلف مدلولاتها من ثقافة إلى أخرى ومن تداولات تحكمها البيئات المختلفة.
فالحضارة في اللغة العربية مأخوذة من الحاضرة وهي ضد البادية، وفي الإنجليزية (civilization) تعود إلى الجذر اللاتيني (civites) وتعني المدنية، فالمعنيان متقاربان في اللغتين من حيث الجذر، إلا أن ابن خلدون وهو من أوائل من استخدم هذا المصطلح جعل الحضارة هي: «غاية العمران ونهاية لعمره، وأنها مؤذنة بفساده»( ). فالحضارة عند ابن خلدون تعني غاية المبالغة في التحضر ونهاية عمر الترف المادي المؤذن بعدها بالانحطاط، وهذا المعنى يختلف مع المعنى الذي يقصده المعاصرون.
يقول ديورانت: "الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وتتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية ومتابعة العلوم والفنون. وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق". فمعنى الحضارة عند ديورانت هو كونها حضارة حادثة على الإنتاجية بصرف النظر عن مستواها.
أما تايلور فنجده لا يحدّ مستوى الحضارة بحدٍّ سوى التقدم اللامتناهي، حيث يقول في تعريفها: "هي درجه من التقدم الثقافي تكون فيها الفنون والعلوم والحياة السياسية في درجة متقدمة". وعلى حدّ تعبير رالف لنتون :"فالمجتمع عبارة عن مجموعة منظَّمة من الأفراد، والحضارة مجموعة منظَّمة من الاستجابات الّتي تعلَّمها الأفراد وأصبحت من مميِّزات مجتمع معيّن" .
إلى غير ذلك من التعريفات التي تتفاوت حسب الخلفيات المعرفية والتاريخية والعقائدية في النظر إلى الحضارة, وبشكل عام هناك من وسع مفهوم الحضارة ليشمل كل أبعاد التقدم وهو اتجاه بعض المفكرين الفرنسيين، وهناك من جعله قاصر على نواحي التقدم المادي مثل أصحاب الفكر الألماني، وهناك من جعله مرادفًا لمفهوم الثقافة.
أما المفكر الإسلامي مالك بن نبي فقد استطاع أن يعطي مفهومًا ديناميكيًّا للحضارة يتحدد في ضرورة "توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه"( ).
فحقيقة الحضارة عند مالك بن نبي وكثير من المفكرين هي أعمّ من العمران المادي؛ وهذا ما دعا البعض للتمييز بين مصطلح (الحضارة) ومصطلح (المدنية) باعتبار الاشتباه اللغوي بينها؛ فالمتحضر هو الذي يسكن الحواضر، والمتمدن هو الذي يسكن المدن، لكن حين وجد كثير من المفكرين والباحثين أن ارتقاء حياة الإنسان ذو بعدين أساسين: بعد شكلي، وبعد داخلي؛ رأوا أن يطلقوا مصطلح (المدينة) على ما يتم من ارتقاء في مضامين الحياة الحضرية، ومصطلح (الحاضرة) على الارتقاء الشكلي الذي يتمحور حول وسائل العيش وأدوات الإنتاج وطريقة تنظيم البيئة -وليس هذا بمطرد عند الكل-.
وفي المذهبية الإسلامية التي ننظر من خلالها للكون والحياة اهتمام شديد بمسألة التفريق بين المدنية والحضارة.
فقد ذمّ الله عز وجل أممًا وأقوامًا قطعوا أشواطًا في العمران، واستخدام الموارد، وتصنيع الأدوات، لكن عتوّهم عن أمر الله -تعالى- وفساد مضامين نظمهم العمرانية؛ تسبب في هلاكهم وإبادتهم. وفي هذا يقول الله عز وجل: ((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ))[الروم:9]. وقصّ علينا ما بلغه قوم ثمود من الارتقاء والقوة: ((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ))[الأعراف:74]، ولكن القوم كفروا وأعرضوا عما قاله لهم أخوهم صالح؛ فكانت النتيجة أن: ((فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ))[الأعراف:78].
 وفي المقابل؛ فإن المدينة المنورة التي شهدت أول مجتمع إسلامي، لم تكن في أوضاعها المدنية تتجاوز ما عليه قرية صغيرة في أي بلد من بلدان العالم الثالث اليوم. لكن ذلك المجتمع كان حسب المقاييس المدنية -وهي شبه عامة- يشكّل قمة التمدن والرقي الخلقي والسلوكي والعلائقي. ففي المجتمع المدني كانت الأهداف الكبرى واضحة، والغايات مشرقة، وقد بلغ من وضوحها وسيطرتها على النفوس أن كان المسلمون -حتى الأطفال - يتسابقون إلى نيل شرف الشهادة على نحو لم يسبق له مثيل في التاريخ، وكان من المسلمين من يعمل ويجتهد ليتصدق ببعض أجره في المساء, وبلغ الناس من النقاء وحب التطهر أن اعترف أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض الرجال والنساء بارتكاب جرائمهم مطالبين بكل إصرار أن ينزل عليهم عقوبة الدنيا ولو كانت الرجم بالحجارة حتى الموت حتى يلقوا الله تعالى وهو عنهم راض.. وبلغت شفافية الحكم والدولة أن كان مرتّب الخليفة لا يزيد على نفقة الطعام مع كسوة قليلة.. وخلا ذلك المجتمع من مظاهر تسلط الدولة، فالقضاء والسجون ورجال الشرطة.. أمور هامشية إن لم تكن معدومة.. ومهما بيّنا درجة المدنية التي بلغها المجتمع الإسلامي آنذاك؛ فإن الحقائق تظل أكبر من الكلمات( ).
وخلاصة القول: إن مقصودنا من استخدام كلمة (الوعي) في سياق المفهوم الحضاري الشامل للمدنية؛ يمكن تحديده بأنه: «إدراك الفرد ومؤسسات المجتمع المختلفة بمسؤولياتهم الكبرى في بناء الشخصية الإنسانية المتكاملة والسعي في دفع عملية النهضة والتقدم المعنوي والمادي من خلال إصلاح الفكر والسلوك والواقع».

المسالة الثانية : نحو فقهٍ عمراني رشيد .
علم العمران البشري من العلوم الإنسانية التي أدت إلى نقلةٍ نوعيةٍ في كتابة التاريخ , وكان شرف هذا الكشف وتأسيس هذا العلم منسوبا لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون المتوفى سنة 808 هـ ,وذلك في مقدمة مؤلفه التاريخي المشهور "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" ولم يكن لهذا العلم الجديد مزيد بحث وتصنيف أو شرح وتعريف ممن جاء بعده من علماء المسلمين , حتى بعض تلامذته (كالمقريزي) أو من جاء بعده بقليل (كابن الأزرق) فقد عرفوا أهمية فكر ابن خلدون التاريخي ،غير أنهم لم يضيفوا شيئاً يذكر على ما اكتشفه شيخهم من علم .
أما في العصر الحديث فقد ذاع هذا العلم واشتهر مكتشفه وتوالت بعده المصنفات والنظريات الغربية التي أثمرت فهما إنسانيا لطبائع المجتمعات ,وأثرها في تاريخ الأمم والشعوب وكان أشهرهم بحثا وتقصيا هو (دوركايم )مؤسس علم الاجتماع الحديث وقبله (اوغست كونت) الذي بدأه من خلال الحديث عن  الفيزياء الاجتماعية ,ثم أطلق عليه لقبه الخاص (السوسيولوجيا) والذي انسحب بعد ذلك كعَلَمٍ عليه في الغرب والعالم أجمع , يقول توينبي المؤرخ البريطاني الشهير عن ابن خلدون والدور العلمي لمقدمته :"قد أدرك وتصور وأنشأ فلسفة للتاريخ هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان"
أما عن فلسفة ابن خلدون حول علمه الجديد ( العمران البشري )فقد قال عنه –ابن خلدون- , أنه :" ذو موضوع هو ؛ العمران البشري والاجتماع الإنساني وذو مسائل ؛ وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحول لذاته واحدة بعد أخرى , وهذا شان كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا "  . وقد قام ابن خلدون بتحرير الأساسات المنطقية لكل علم برهاني ,إذ يَعدُّ اكتشافه من هذا القبيل , الذي لم يسبق إليه أحد , فاخذ يقرر في بداية المقدمة أسس المناطقة في التعريف بالعلوم البرهانية ,وأنها مبنية على الأركان الأربعة التالية : الموضوع , والأعراض الذاتية , والمسائل , والمقدمات .
ويرى ابن خلدون " انه شرح فيه من أحوال العمران والتمدن , وما يعرض في الاجتماع الإنساني من الأعراض الذاتية , وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها , ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها"
ثم قال في بيان غايته :"وهو علم يحوّل غاية المؤرخ من سرد الأخبار وتصيد الغرائب إلى السعي إلى فهم الاجتماع الإنساني , الذي هو عمران العالم , وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال ، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على البعض , وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع , وما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال " 
وهذا المنهج من النظر في تحليل واقع المجتمعات ,ودراسة أسباب التغير والتبدل في أحوال الفرد والجماعة , يعتبر من أعظم مصادر العمل الإصلاحي لأي مجتمع يُراد تغيير ظروفه وعلاج أزماته , ولعل عُزلة ابن خلدون في قلعة ابن سلامة في الجزائر بعد نكبات عدة شهدها في الأندلس والمغرب العربي قد قادته لتلمس المخارج ومراجعة طبائع العمران وتأثيرها على بني الإنسان .
والحقيقة أن الغرض من سوق مقدمة تعريفية لعلم العمران الخلدوني هي من أجل ذكر العلاقة بين ما اكتشفه ابن خلدون من اثر الطبائع والأحوال وفهم الاجتماع الإنساني إلى تحويل هذه المؤثرات والمفاهيم إلى آليات عمل ومشاريع بناء وعمارة للأرض تسهم في صياغة فعل إنساني يتجاوز انحطاط الواقع وغموض المستقبل , لهذا كان الأليق بعلم العمران أن يربط بعلم الفقه للتعريف بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين من حيث الواجب المراد فعله أو الندب إليه, أو المحرم المراد اجتنابه أو التنزه منه .فالداعي الأساس من إيراد هذا الموضوع ؛ هو إعادة الربط بين الفقه الحامل للعمل ؛ وبين المفهوم المجتمعي المبيِّن لطريق العمل الصحيح ؛ من خلال إدراك طبيعة التغيير وفهم مجالات الإصلاح المنشود والعمران الحضاري المطلوب ؛وفق كل الأحوال والظروف التي يعيشها الفرد المسلم في العصر الحاضر .
و(فقه العمران) هو من أنواع الفقه الغائب لعقود من الزمن , اندثرت كل محاولات التنظير والترشيد لفقه يحمل المسلم إلى عمارة الأرض وبناءها, وتأسيس نهضة مدنية لمجتمعاتها .
وللأسف أن الغفلة عن هذا الفقه ليس في بيانه والتعريف به فحسب ؛ بل تجاوز إلى إلغاءه وإنكاره أحيانا من فقه شريعتنا الغراء واعتباره من مشاغل الدنيا الفانية على حساب الآخرة الباقية ؟! ,وهذا ما جعل الهوّة كبيرة بين تاريخٍ مضى برزت فيه أنواع العلوم والمعارف المختلفة وازدهرت فيه مناحي العمران والبناء ,و تاريخٍ تفنن في تحقير الدنيا نظريا ,واقتات على فتات الأمم الأخرى واقعا عمليا .ومن أجل إثارة الذهن المسلم في إعادة نصاب هذا الفقه من العمل والبيان في أفعال المكلفين .  فسأبين  أهم ملامح هذا الفقه وأهميته في الشريعة الإسلامية من خلال النقاط التالية :
أولا : أن الله تعالى خلق الإنسان في الحياة الدنيا لغايتين : عبادته سبحانه كما شرع ,و عمارة أرضه كما أمر , وكان الخطاب القرآني يرتكز على مفاهيم وأشكال العبادة أكثر من تركيزه على آليات العمارة , وذلك أن العبادة تلبستها صور عديدة من الشرك والانحراف أدت إلى فساد الحرث والنسل ولأن في صحتها وقوامها المطلوب قوام للحياة ومعاش الناس , ثم إن عمارة الأرض تتوافق مع ما جبل الله تعالى الإنسان عليه من حب التملك والتنافس والتكاثر , فهو يحتاج إلى الاعتدال في طلبه والامتثال في عمله ولا يصلح حاله إلا بشرعٍ مسدد ووحي ملزم يهذّب طبعه من الانحراف والتجاوز . ولا يعني ذلك أن القرآن قد أهمل الطلب أو نفاه ؛ بل قد جاء في أكثر من أية تعزيز القيام بالعمارة , كقولة تعالى :" وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"[ البقرة 30]
   وقد قال البيضاوي في تفسيرها :"والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه ، والهاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم"  وقال ابن عاشور مؤكدا معنى العمارة :"فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي" .
وقال تعالى :" هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" [هود61]
قال الطبري مؤكدا معنى العمارة في الأية :"(واستعمركم فيها) ، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها"  وقال البيضاوي :" (واستعمركم فِيهَا ) عمركم فيها واستبقاكم من العمر ، أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها "  , فالإنشاء من الأرض هو في خلق آدم من الأرض لأنّ إنشاءه إنشاء لنسله ، وإنّما ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأنّهم كانوا أهل غرس وزرع ، كما قال تعالى " أتتْركون فيما هاهنا آمنين في جنّاتٍ وعيونٍ وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيمٌ " [ الشعراء : 146 148 ] ولأنّهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتاً ويبنون في الأرض قصوراً ، كما قال في الآية الأخرى : "وبوّأكم في الأرض تتّخذون من سهولها قصُوراً وتنحتون الجبال بيوتاً " [ الأعراف : 74 ] ، فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها ، ولذلك عطف عليه (واستعمركم فيها ).
والاستعمار عند كثير من المفسرين هو الإعمار ، أي جعلكم عامرينها ، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق . ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأنّ ذلك يعدّ تعميراً للأرض حتى سمي الحرث عِمارة لأنّ المقصود منه عَمر الأرض . 
فمقصود هذه الأيات وغيرها واضح الدلالة في بيان مقصود العمارة من خلق الإنسان وأنه واجب على مجموع الخليقة في القيام به , وقد نص على حكم الوجوب الإمام الجصاص في قوله :" (واستعمركم فيها )يعني أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه ,وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية " ,وليس خارجا هذا التكليف عن مفاهيم الطلب كما زعم البعض .
ثانيا : إن من أعظم مقاصد التشريع الذي جاءت بالدلالة عليه جزئيات الشريعة وكلياتها ؛ ما يفيد الطلب بالقيام بعمارة الأرض واستصلاحها بما يحقق النفع والقوة للإنسان , وقد حكى هذا المقصد العام من التشريع غير واحد من علماء الفقه والأصول , ومنهم الإمام ابن عاشور في قوله :" إنّ من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعْي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص ، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كدّ لجمع المال وكسبه ، ومراعاةِ الإحسان للذي بطَّأ به جُهده ، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية "
ويقول الشيخ علال الفاسي :"المقصد العام للشريعة الاسلامية هو عمارة الارض وحفظ نظام التعايش فيها وصلاحها بصلاح المستخلفين فيها , وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع "
 فعمارة الأرض بالبناء و الصناعة والزّراعة والانتفاع بما في باطنها من معادن وخيرات مطلوب من النّاس عامّةً ، ومن المسلمين خاصّةً ، فهو من مقتضيات الاستخلاف العامّ للنّاس في الأرض , قال الإمام الغزالي :"فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ".
ولذلك كان قصد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه من ضرب الخراج وعدم تقسيمه على الغزاة ؛ أن تبقى الأرض عامرةً بالزّراعة فأهلها أقدر من الغانمين على ذلك لتوفّر الخبرة والقدرة على الزّراعة ، ولذلك قال في أهلها : يكونون عمّار الأرض فهم أعلم بها وأقوى عليها.
وقد سلك عمر رضي الله عنه في ذلك مسلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حينما فتحت خيبر وصارت الأرض والأموال المغنومة تحت يده ولم يكن له من العمّال ما يكفون عمارة الأرض وزراعتها ، دفعها إلى أهلها على أن يزرعوها ولهم نصف ثمرتها , وبقيت على ذلك طيلة حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.    
فالعمران المدني في حياة الناس ليس هامشيا أو بعيدا عن مراد الشرع ؛ بل جاء في أعظم مقاصد الدين , ولا ينبغي للمكلف أن يكون مقصوده مخالفا لمقصد الشارع , وهذا يقتضي أن العمل والبناء والزراعة و الصناعة وصنوف التعمير هي من مقاصد الشرع الحنيف المطلوبة من عموم المسلمين .
ثالثا: أن هناك طلب تشريعي توجه للأمة كلها – دون أمر الأفراد بأعيانهم - بالقيام بمصالح الخلق وهو ما يطلق عليه (فروض الكفايات) وهو كما عرّفه ابن عبد السلام :" أن المقصود لفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان بتكليفه" , ولا شك أن عمارة الأرض من أهم تلك المطالب العامة لضرورتها في حياة الخلق , وقد عدّ الإمام الشاطبي فروض الكفايات العامة من الضرورات اللازمة التي لابد من القيام بها لصالح معاش الناس وذلك بعد أن عدد بعض هذه الفروض , قال :" وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام"  و انخرام النظام من أعظم مفاسد الأمم والمجتمعات .
وقال الإمام القرافي :" أحوال الأمة والنظر في مصالح الملة فإنه من أهم فروض الكفاية "  فالتعمير والبناء وإصلاح أحوال المجتمع هي فروض عامة لا تسقط إلا بالقيام الكافي بهذا المطلوب , وإلا أثمت الأمة بتركهم هذا الواجب العام , والناظر في أحوال المسلمين اليوم يرى حجم النقص والتقصير الكبير في واجب عمارة الأرض وضياع حضارتهم , خصوصا في المجالات المدنية كالصناعات والتقنيات الدقيقة ومجال الاتصالات وتقنية المعلومات ومجال المكتشفات الطبية والعلمية المختلفة, ولا أظن أحدا يخالف في أهميتها للمسلمين , وقد نص أكثر من إمام على وجوب العمل لتغطية الاحتياج العام في هذه المجالات وغيرها , ومنهم الإمام الزركشي في قوله :" الحرف والصناعات وما به قوام المعاش كالبيع والشراء والحراثة و ما لا بد منه حتى الحجامة والكنس وعليه عمل الحديث " اختلاف أمتي رحمة للناس " ومن لطف الله عز وجل جبلت النفوس على القيام بها , ولو فرض امتناع الخلق منها أثموا ولم يحك الرافعي والنووي فيه خلافا".
رابعا : يقول الله تعالى :"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" [البقرة 143 ] ويقول تعالى :"كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [ال عمران 110] , فهذه الأوصاف التي جعلت الأمة شاهدة على الناس وصاحبة الخيرية على جميع الأمم هي أوصاف تعليلية , وذلك كونهم وسطا معتدلا بين الغلاة والمقصرين ,و لقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعموم معناه وشمول مبناه  , فأمة بهذه الأوصاف الجليلة لا يمكن أن يكون حالها الراهن المعلوم للجميع سويّا أو مقبولا , لأنها مرتبطة بالشهادة على الآخرين, ولا يتحمل الشهادة على أحد إلا من كان عالما واعيا قادرا على أداء ما سيشهد عليه , ولذلك كان على الأمة جمعاء واجب القيام بأسباب الخيرية وحسن الأداء وجودة العطاء وبث الفضيلة والمعروف بين الناس وإزالة أسباب الفساد والمنكرات , ولا أظن أن عمارة الأرض وحسن إعداد مجتمعاتنا الإسلامية إلا من قبيل هذه المهمة العظيمة التي شرف بها أول هذه الأمة ولن يشرف أخرها إلا بها .
خامسا: هناك شواهد نبوية ومن أفعال الصحابة ما يدل على عنايتهم بالبناء واهتمامهم بالعمل المدني , ولكن يقابل ذلك شواهد أخرى تدعو إلى الحذر من الركون للدنيا والزهد فيها ووصف العمران بأنه من علامات الأمم الغابرة التي كفرت بأنعم الله واستحقت العذاب بسبب انشغالها بذلك ؛كقوم صالح وقوم هود وفرعون ذي الأوتاد . ونصوص الذم للدنيا والانشغال بها تفوق الحصر ؛ بل قد صنف كثير من أهل العلم مصنفات كبرى في الزهد وطلب الأخرة .  
وهنا يطرأ سؤال مهم ؛ هل العمران مذموم في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي المبينة للقرآن والكاشفة عن أحكامه ومقاصده ؟ ويمكن الجواب عن هذا السؤال في النقاط التالية :
1- أن مفهوم العمران ليس مفهوما ماديا بحتا , وإنما هو اثر لقوة العلم والقيم وعمق الوعي بسنن التحضر والمدنية , وأكثر نصوص الوحي كانت لهذا البناء الإنساني أولا ,وإيجاد المستلزمات الضرورية لإصلاح معتقده ونفي صور الانحرافات الشركية والكفرية من عقله وسلوكه , وتنقيته من رواسب الجاهلية وأخلاقياتها المادية , وهذا ملاحظ في عمق الربط بالآخرة وتقوية الصلة بالله في الفترة الأولى المكية من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم , ولذلك كان العمل هو صياغة ولادة جديدة لمجتمع نقي الباطن قادر على تحمل تكاليف النهضة الجديدة وانشغالاتها وتبعاتها العمرانية على الأنفس والسلوك .
2- إن واقع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكن واقعا منكفئ الصلة بوجوه المدنية القليلة حولهم , بل كانوا أصحاب عمل وحرف وصنائع مختلفة , ولم تصرفهم أعباء الدعوة وبناء الدولة عن ذلك , والشواهد من حياة عثمان وابن عمر وابن عباس والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف تؤكد حجم الاهتمام بالتجارة والعمل , ولكن لم يكن هناك نزوع نحو الإسراف والترف والمطاولة بالعمران والمنافسة على تسخير المجتمع نحو مشاريع فردية كقصور وإيوانات ومقابر ,كما هو حال فراعنة مصر أو أكاسرة الفرس أو قياصرة الروم . يقول الإمام ابن الجوزي مجيبا على شبهة الانحراف عن عمارة الدنيا تحت ذريعة التزهد :" تأملت أحوال الصوفية و الزهاد فرأيت أكثرها منحرفا عن الشريعة بين جهلٍ بالشرع و ابتداعٍ بالرأي , و يستدلون بآيات لا يفهمون معناها و بأحاديث لها أسباب و جمهورها لا يثبت ,  فمن ذلك أنهم سمعوا في القرآن العزيز : " و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " " أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة " ثم سمعوا في الحديث :" للدنيا أهون على الله من شاة ميتة على أهلها " فبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها ,و ذلك أنه ما لم يعرف حقيقه الشيء فلا يجوز أن يمدح و لا أن يذم , فإذا بحثنا عن الدنيا رأينا هذه الأرض البسيطة التي جعلت قرارا للخلق تخرج منها أقواتهم و يدفن فيها أمواتهم  و مثل هذا لا يذم لموضع المصلحة فيه , و رأينا ما عليها من ماء و زرع و حيوان كله لمصالح الآدمي ,و فيه حفظ لسبب بقائه ,و رأينا بقاء الآدمي سببا لمعرفة ربه و طاعته إياه و خدمته , و ما كان سببا لبقاء العارف العابد يمدح و لا يذم فبان لنا أن الذم إنما هو لأفعال الجاهل أو العاصي في الدنيا ,فإنه إذا اقتنى المال المباح و أدى زكاته لم يُلم,  فقد عُلم ما خلف الزبير و ابن عوف و غيرهما ,و بلغت صدقة علي رضي الله عنه أربعين ألفا ,و خلفت ابن مسعود تسعين ألفا ,و كان الليث ابن سعد يشتغل كل سنة عشرين ألفا ,و كان سفيان يتجر بمال, و كان ابن مهدي يشتغل كل سنة ألفى دينار" .

3- إن هناك شواهد أخرى بالغة المعنى تدل على حقيقة العمران لا من جانبه المادي الظاهري بل من خلال تأسيس روح العمل وقيم المبادرة وسلوك الوحدة الجماعية التي لا تنظر إلى فردانيتها بقدر ما تحمل هموم الجماعة ومصالحها , ومن ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن قامت على أحدكم القيامة وفى يده فسيلة فليغرسها ».   يقول الإمام المناوي في شرح معنى الحديث :"والحاصل أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها , فكما غرس لك غيرك فانتفعت به ؛فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع ,وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلل من الدنيا " . 

ومن هنا نعلم أن العمارة الحقيقية إنما تبدأ من فكر الإنسان وتنمية وعيه بقيم الحقوق و الواجبات العمرانية , ولو فُقدت هذه الأحكام والمبادئ لأصبحت مهمة العمران من مفاسد الأرض وجلب الظلم وانتهاك حقوق الأفراد , وهذا ما قصده ابن خلدون في قوله :" أن الحضارة مفسدة للعمران "  من حيث وصولها إلى مرحلة الترف المؤدي إلى فساد الأخلاق وتمزق المجتمع وذهاب ثروته نحو طبقة متفردة تنتهي بها الدولة .  
يظهر مما مضى من عرض موجز حول أصول (فقه العمران) أنه من الفقه الجديد الذي يحتاجه المجتمع في حركة نموه واطراد حاجاته ؛ مثل دواعي الفقه المصرفي والطبي والسياسي وغيرها , واعتقد أن الحاجة ماسة في فقه عمراني يؤصل بواعث العمل نحو التحضر المدني ويرسخ مفاهيمه الإسلامية ويقرر تفرد الأمة بمنهج حضاري يقي العالم من إفرازات وسلبيات الحضارة المدنية الراهنة وعولمتها التي اجتاحت العالم بأسره . وهذه المحاولة لتأصيل (فقه العمران) لعلها تفتح الباب لأهل العلم والبحث لمزيد تنظيرٍ وتأطيرٍ وجمعٍ للأحكام الفقهية المؤسسة لفعل حضاري رشيد يبني الدنيا وهو يعمر الآخرة .


المسالة الثالثة: حتمية العمل نحو فقه حضاري رشيد.
بعد بيان اهمية الوعي الحضاري ومنزلته في إحداث التغيير لمجتمعاتنا المتخلفة وتأصيل مشروعية فقه العمران , أرى من المهم العمل الجاد في إبراز هذه الجوانب في فكر الأمة , وتشجيع التوجه نحو صياغة الذهنية الإسلامية لتأطير الوعي في كل مناحي الحياة .
وكل مشروع يراد له النجاح في أرض الواقع حتى لو بلغ من التخطيط والأعداد منتهاه , ولكنه لم تعيه العقول المنفذّة ولم تدركه افهامهم , واقحموا في التنفيذ من غير وعي , فسوف يكون الحال بخلاف ما عليه التخطيط للمشروع , لذلك نحتاج في إعادة عمران مجتمعاتنا إلى" إعادة تشكيل الذهن وتعميق التصور وتنمية الفكر نحو الرسالة الحضارية للإسلام بكل شمولها للمجالات العبادية والعمرانية وعمومها للزمان والمكان والأفراد".
فالبدء بالوعي هو أشبه بخطاب لعقل المسلم يعيد فيه قراءة الشريعة الإسلامية التي جاءت بالإشهاد على الناس من خلال سماحة الشرع وتقدمية أحكامه ودوره في علاج مشكلات المجتمعات والنهوض بأفراده .
ومن المعلوم أن أي تحضر لأمة من الأمم لابد أن يسبق بفكرة تنطبع في أذهان أصحابها إلى درجة الاعتقاد الجازم المفضي الى البناء المشترك والعمران الحضاري , يقول مالك بن نبي :"إن حضارة ما؛ هي نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر ؛الدفعة التي تدخل به التاريخ " وهو ما أثبته توينبي من دور عظيم للفكرة وبالذات الدينية من أثر في تاسيس الحضارات . لذلك كان التركيز على إعادة إظهار هذه الفكرة بتوعية المسلمين بها وتعميقها في أذهانهم وأنفسهم كما نطق بها القران الكريم في قوله تعالى:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" [البقرة 143 ] , ويقول تعالى :"كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [ال عمران 110],  وهو الدور الذي قام به عليه الصلاة والسلام في إحداث التحضر العظيم الذي أسسه في المدينة وانطلق إلى أصقاع الأرض , وهذا الوضوح في الفكرة نطق بها ربعي بن عامر إجابة على سؤال رستم له عن سبب هذه الحركة التغييرية التي تقومون بها , فقال له ربعي :"الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى سعة الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
ثم إن الوعي هو الوقود الحقيقي لحركة العمران التي انطفأت في الأمة منذ قرون , ولابد من إشعال الوعي الحضاري الذي يدركه كل مسلم وينطلق من خلاله إلى الإصلاح والتغيير , فالهدف من تأصيل فقه العمران هو من أجل الإسهام في تنوير الوعي بهذا الدور وإصلاح الذهن لهذه الانطلاقة الحضارية  .

من دواعي العمل للتوعية بفقه العمران:
1- الانبهار القوي بالمدّ العولمي بكل آلاته الإعلامية والثقافية و الاقتصادية والسياسية , والذي بدأ يغزو كل مجتمع ويذيب كل الثقافات والفروقات تحت تأثير أنموذج غربي ينبغي أن يسود لوحده ويؤثر في الجميع , وبالتالي ظهرت أجيال من المسلمين منسلخة عن شريعتها منبهرة بعجل السامري , تحتاج إلى إفاقة واعية تبحث في دينها العظيم عن مكامن ثباتها واعتزازها وعلوها على سائر الأمم بدلا من الانهزام النفسي الذي تعيشه أجيال اليوم.
2- الضعف والانحطاط في البلاد الإسلامية في جميع الميادين الحياتية , مما جعل هناك حالة يأس في الأنفس من النهوض مرة أخرى  , وحالة شك من أن نملك أدوات التحضر المنشود  .
3- المحاولات الإصلاحية التي أغفلت التركيز على الوعي الحضاري وكون الإسلام رسالة تحمل الهداية والرحمة والتقدم للكون والإنسان وذلك بالبدأ إما بالعمل السياسي المجرد أو العمل التراثي العلمي أو التزكية والتحلية للنفس والروح أو العمل القتالي كوسيلة للنهوض بالأمة , إلى غيرها من اجتهادات كانت تنحو إلى جعلها هي مدار الدين ومرتكز التغيير , في حين لا يزال الوعي بالشريعة منحصر في تلك الزوايا غافل عن تلك المعاني الأخرى , فالمرحلة الحالية تحتاج إلى زرع الثقة بالدين وترتيب العقل المسلم وتشكيل ذهنه نحو القابلية لهذا التحضر ودفعه إلى ميادينها المتنوعة والمتكاملة كشريعة واحدة لا كمذاهب متفرقة .

أهم المنطلقات العامة للتوعية بفقه العمران : 
1- تعميق الوعي بمقاصد الشريعة الإسلامية وربط الأحكام بها وتنبيه المسلم على دورها في توضيح الصورة المتكاملة للدين كونه طريق السعادة في الدارين .وذلك من خلال الميادين التالية :
أ- تعظيم العبودية لله من خلال التدبر في آياته المقرؤة والمنظورة , والتركيز على جوانب العظمة الحقيقية التي تجعل الأنفس أقرب إلى الله في كل حال بدلا من التركيز الكلي على الجوانب العلمية في التوحيد أو أسلوب التخويف في الوعظ , الذي يجعل الأنفس تمل وتكل وربما تفتر , وهذا له دور في تنظيم وحدة الفكر والإخلاص والعمل .
ب-التأكيد على المقاصد الشرعية عند الإفتاء بذكر العلل والحكم من التشريع وتهذيب النفوس بالأحكام , والتيسير ورفع الحرج فيما يغلب فيه الضيق والعنت أو الحاجة والشيوع , مع التدرج بالناس عند المنع واعطائهم البديل المباح عند التحريم , وادراك المفتي بمهمته في العمران الحضاري المتجدد والمواكب لكل التغيرات الحياتية .
  ج-تلقي الأحكام وتوضيحها على أساس الكليات الخمس بحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال , وجعل هذه الضروريات الخمس متبلورة في ذهن المسلم ومناهج التغيير في المجتمع , ليعرف موقع الأعمال والاقوال و جميع التصرفات داخل منظوم التشريع الإسلامي.
2 -  إعطاء العلوم والمعارف والفنون الإنسانية دورها من الاهتمام والتعلم والهيبة وتحقيق التكامل بينها وبين علوم الشريعة المتنوعة ,والتوازن في عرضها وتعليمها باللائق بها دون إفراط أو تفريط ؛ وذلك لبث علوم العمران المدني ونشر أدواته بين المسلمين ,كما كانوا هم علمائه ومؤسسيه في عصور النهضة الإسلامية , ولا يكاد تجد عالما في الشريعة إلا وله من معارف الطب والهندسة والفلك والحساب وغيرها ما يعتبر فيه مرجعا وصاحب تخصص ٍودراية , والأمثلة تفوق الحصر ولكن حسبنا من أولئك الإمام ابن رشد والقرطبي والقرافي والرازي والزمخشري وغيرهم كثير .
وقد أقدمت إحدى المؤسسات العلمية البريطانية على إقامة معرض علمي تاريخي للتذكير بمآثر المسلمين العلمية التي غيرت وجه العالم حسب عنوان صحيفة الاندبندنت. وقد لخص الكاتب بول فاليلي تلك الإنجازات العظيمة في عشرين إنجازاً ومخترعاً مسلماً لولاهم لما كان العالم المعاصر على ما هو عليه من تقدم وحضارة وازهار ورخاء.
 فالمسلمون هم أول من اكتشف القهوة وجعلها مشروباً عالمياً؟ حدث ذلك عندما كان عربي اسمه خالد يرعى أغنامه في منطقة بجنوب إثيوبيا حيث اكتشف أن أغنامه صارت أكثر حيوية بعد تناولها نوعاً من الحبوب، فأخذ بعضاً منها وغلاها ليصنع منها أول مشروب للقهوة. وكان الصوفيون أول من استورد القهوة من اثيوبيا إلى اليمن حيث كانوا يشربونها كي يسهروا طويلاً للتعبد والصلاة. وفي نهاية القرن الخامس عشر وصلت القهوة إلى مكة وتركيا ومن ثم إلى البندقية في إيطاليا. وفي منتصف القرن السابع عشر وصلت إلى انجلترا بواسطة شخص تركي حيث فتح أول محل لبيع القهوة في شارع لامبارد بلندن. ومن ثم أصبح اسم القهوة بالتركية "كهفي" وبالإيطالية "كافا" وبالانجليزية "كافي".
كما إن ابن الهيثم عالم الرياضيات والفلك والفيزياء هو مخترع الكاميرا التي تعتبر عماد الحياة الإعلامية الحديثة. وقد اخذت اسمها من كلمة "قمرة" العربية وتعني الغرفة المظلمة أو الخاصة.
وهل نعلم أن الفلكي والشاعر والموسيقي والمهندس عباس بن فرناس كان قد سبق الأخوين رايت بألف عام في صناعة آلة للطيران؟ وقد طار لأول مرة من على مئذنة في مدينة قرطبة مستخدماً عباءة محشوة بمواد خشبية. وقد كانت عباءة بن فرناس أول مظلة في التاريخ. ثم اخترع آلة أخرى من الحرير وريش النسور وطار فيها من أعلى جبل وبقي في الجو لمدة عشر دقائق ثم سقط. واكتشف فيما بعد أن سبب سقوطه يعود إلى عدم صنع ذيل لطائرته.
ويعتبر المسلمون أول من طور الصابون الذي نستخدمه اليوم وأضافوا له الزيوت النباتية وهايدروكسيد الصوديوم والعطورات كعطر الزعتر, بينما كانت تفوح من أجساد الصليبيين الذين غزوا الأرض العربية روائح كريهة للغاية حسبما يقول مسلمو ذلك الزمان؟ وقد جلب الشامبو إلى انجلترا لأول مرة شخص مسلم وقد عـُين فيما بعد في بلاط الملكين جورج وويليام الرابع لشؤون النظافة والشامبو.
وهل نعلم أن جابر بن حيان هو مخترع الكيمياء الحديثة وإليه يعود الفضل في صناعة كل أجهزة التقطير والفلترة والتبخير والتطهير والأكسدة المستخدمة هذه الأيام.
وهل نعلم أن الفضل يعود إلى المهندس الجزاري في تصميم أهم الاختراعات الميكانيكية في تاريخ الإنسانية. فهو الذي صمم أول صمامات عرفها الإنسان وهو الذي اخترع الساعات الميكانيكية وهو أبو علم الآليات والتسيير الذاتي الذي تقوم عليه الصناعات الحديثة. وللتذكير ايضا فهو اول من اخترع القفل الرقمي الذي نراه الآن مستخدماً في الحقائب والخزائن.
وهل نعلم أن أول من صنع المواد العازلة هم المسلمون. وهم الذين ابتكروا الألبسة المحشوة بمواد عازلة التي كان ومازال يرتديها العسكريون.
وهل نعلم أن المهندسين المسلمين هم أول من صمم الأقواس الهندسية التي اخذها عنهم الغرب فيما بعد في علم هندسة البناء، ولولا العلوم الهندسية الاسلامية لما شاهدنا الكثير من القلاع والقصور المنيفة والأبراج الهائلة في الأصقاع الغربية.
هل نعلم أن كل الأدوات المستخدمة في الجراحة والتشريح اليوم هي نفسها التي اخترعها العالم الزهراوي في القرن العاشر؟ هل نعلم أن المائتي أداة التي يستعملها الأطباء اليوم هي من تصميم الزهراوي؟ هل نعلم أنه أول من اكتشف الخيطان المستخدمة في العمليات الجراحية والتي تذوب في الجسم بعد العملية؟
هل نعلم أن ابن النفيس هو الذي اكتشف الدورة الدموية في القرن الثالث عشر قبل هارفي بثلاثمائة سنة؟
هل نعلم أن العلماء المسلمين هم أول من اخترع "البنج" أي المخدرات الطبية التي تعطى للمرضى قبل العمليات وهم الذين مزجوا الأفيون بالكحول للغرض نفسه؟
هل نعلم أن المسلمين هم أول من اخترع الطاحونة الهوائية لطحن الذرة والري؟ ولم تعرفها أوروبا الا بعد خمسمائة عام؟
هل نعلم أن أول من اكتشف التلقيح والتطعيم الطبي هم المسلمون وليس باستور الفرنسي؟ وقد أوصلته إلى أوروبا زوجة السفير البريطاني في اسطنبول عام 1724م.
وقد كان الأتراك يلقحون اطفالهم ضد بعض الأمراض المميتة قبل الأوروبيين بأكثر من خمسين عاماً.
هل نعلم أن الفضل يعود إلى سلطان مصر الذي طلب تصنيع قلم حبر لا يوسخ الأيدي والملابس فجاء اختراع أقلام الحبر الناشف التي تستخدم على نطاق واسع في كل انحاء العالم الآن؟
هل نعلم أن نظام الترقيم وضعه الخوارزمي والكندي؟ وهل نعلم أن الخوارزمي هو واضع علم الجبر ايضاً؟ كما أن العالم الإيطالي فيبوناتشي هو الذي نقل العلم الحسابي العربي إلى أوروبا بعد أكثر من ثلاثمائة عام على اكتشافه عربياً، والمؤسف أنه معروف في الغرب على أنه مكتشفه لا ناقله؟ وهل نعلم أن عالماً مسلماً هو مكتشف اللوغاريتمات؟ كما أن أصل علم المختصرات عربي؟
ومن المعلوم عند الغرب أن علي بن نافي الملقب بزرياب هو الذي وضع اسس التغذية الحديثة، فهو الذي جاء من العراق إلى قرطبة بفكرة الوجبة الثلاثية التي تتألف من الشوربا والصحن الرئيسي من اللحم أو السمك ثم الفاكهة والمكسرات؟ وهو الذي طور ايضا كؤوس الكريستال التي عمل على اختراعها في البداية عباس بن فرناس.
كما أن المسلمين هم من وضع علم النسيج والحياكة والسجاد تحديدا بينما كانت أرض المنازل في أوروبا من التراب والسطوح البدائية؟ وقد انتشرت السجاجيد فيما بعد في الغرب انتشار النار في الهشيم.
وهل نعلم أن كلمة "شيك" الانجليزية اصلها عربي، فهي مأخوذة عن كلمة صك، أي التعهد بدفع ثمن البضائع عند تسلمها وذلك تجنباً لتداول العملة في المناطق الخطرة؟ وفي القرن التاسع كان رجال الأعمال المسلمون يأخذون الكاش مقابل شيكاتهم في الصين المسحوبة على حساباتهم في بغداد. بعبارة أخرى فالمسلمون هم من وضع أسس الاقتصاد المالي.
وهل نعلم أن ابن حزم اكتشف ان الأرض كوكب يدور قبل العالم الغربي غاليلي بخمسمائة عام وأن الفلكيين العرب كانوا يحسبون حركة الأفلاك بدقة متناهية؟ وهل نسينا أن العالم الإسلامي الأدريسي قدم للملك روجر في صقلية الإيطالية كرة أرضية مرسوماً عليها أقاليم وبلدان العالم في القرن الثاني عشر؟
وهل نعلم أن العلماء المسلمين هم أول من استخدم البارود للأغراض العسكرية بإضافة البوتاسيوم له وهم أول من صنع صاروخاً ينفجر في سفن الأعداء عند إصابتها؟
كما يعتبر المسلمون هم أول من صمم الحدائق للتمتع بجمال الطبيعة والاسترخاء بينما كان الغربيون يستخدمونها فقط لزراعة الأعشاب والخضار للطبخ؟ وأيضاً هم اول من زرع الزنبق والفل الذي يزين حدائق أوروبا هذه الأيام؟
هذا غيض من فيض لمآثر المسلمين المدنية التي شهد بها الغرب , وإلا فمدوناتهم مازالت تحت التراب , ومن خلال مشاهدات شخصية لخزائن المخطوطات العربية في كثير من عواصم العالم وجدت الكم الكبير من مخطوطات الطب والفلك والهندسة والنبات مازالت محفوظة في هذه الدور من غير تقصٍ لها, أو دراسة بحثية فيها ,أو اكتشاف ما بها من علوم ومعارف , ولعل السبب يعود في ذلك إلى انتشار التعليم النظامي الحديث في العلوم الطبيعية والذي قطع الصلة كليا بهذا المخزون التراثي الكبير .
3-    تعميق الوعي بالشهود الحضاري من خلال الدلالات اللغوية لمعنى الشهود الذي جاء في الآية في قوله تعالى :"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" [البقرة 143 ] , ومن معاني الشهادة المعروفة عند أهل العلم , أن الشاهد لابد أن يكون عالما بما يشهد به علما يقنع الآخرين بالحجج والدلائل .وأن يبينه ويظهره للآخرين ,ويبلغه لمن يحتاجونه و ينتفعون به , بالإضافة إلى العدل والأمانة في تبليغ الشهادة . وهذا الدور الإشهادي للأمة مفقود يحتاج إلى يقظة أصحاب الشهادة لأداء ما تحملوه من تبعة حمل هذا الدين .


 

 

 

الإسم    
الدولة  
البريد الإلكتروني       
تقييم الموضوع  
التعليق    
رمز التفعيل


 
 
 

د. مسفر بن علي القحطاني