المستشار سالم االبهنساوي لم ألتق به ولم أتعرّف عليه إلا في يومين خاطفين قضيناهما في باكو عاصمة أذربيجان في مؤتمر حول :"الوسطية والشباب" بل لم أكن أعرف شكله إلا بعد أن عرفني عليه الأستاذ عبد الحليم خفاجي وكان ذلك في دبي وأثناء انتظار رحلتي المغادرة إلى باكو .
والحقيقة أني لم أكن أعرف أيضا الأستاذ خفاجي إلا بقدر من الله لم أتوقعه ؛ وذلك أني بعد صلاة الظهر والعصر في مصلى مطار دبي الدولي جاءني رجل يلبس البدلة وبسحنة عربية شقراء وصافحني بحرارة و طلب مني أن اذكّره باسمي لأنه يقطع بمعرفتي وأننا قد تلاقينا قبل ذلك , حاولت أن استجمع ذاكرتي و أتعرّف على هذا الشخص وأين رأيته قبل ذلك , ولكني لم استطع تذكره ؛ بل ربما جزمت أنني لم أره قبل الساعة . حينها أدرك أنه التبس عليه الأمر وإن كانت عيناه مازالت تبحث في ملامحي ما يقوّي دعواها , وبعد أن عرّفني باسمه تذكرته وأيقنت بمعرفته ليس بالمقابلة والمعاشرة بل من خلال أحد كتبه التي قرأتها قديما حينها قلت له : أنت الأستاذ خفاجي صاحب كتاب (عندما غابت الشمس) قال: نعم .قلت له : اليوم اشرقت الشمس ..تهلّل وجهه أن المعرفة كانت أعمق من مجرد رؤية عابرة في مكان ما ,أو مجالسة في درس أو محاضرة سابقة.
جلسنا حينها أكثر من ساعتين في الحديث الذي لا يملّ حول مشاريعه في نشر تراجم القران بلغات العالم . وفي أثناء الحديث إذا بالمستشار سالم البهنساوي رحمه الله يمر من أمامنا ليدخل المصلى الذي جعلنا من المقاعد المقابلة له مكان حديثنا ,فما كان من الأثنين إلا أن التزما بعضهما وتعانقا في لحظات من المحبة الحقيقية والإنس العظيم بالأخوة الصادقة ..حينها تعرّفت على الأستاذ سالم رحمه الله, وكنا جميعا على نفس الطائرة التي أقلتنا إلى باكو .. اتجهت بعد ذلك إلى بوابة الرحلة وأدركتها كآخر راكب دخل إلى الطائرة بسبب الوقت الذي مضى من غير أن اشعر مع الأستاذ خفاجي ..
وفي باكو اقتربت أكثر من الأستاذ البهنساوي واستمعت لتعليقاته العميقة والشيقة في جلسات المؤتمر . وفي أخر يوم ولما علم بسفري طلبني أن أتحدث معه في غرفته في الفندق الذي كنا نقيم فيه .. قضيت معه ثلاث ساعات تقريبا استصغرت نفسي من همته وحماسه وتضحياته للعمل الإسلامي وهو الذي قد تجاوز السبعين عاما .. تكلّمت معه حول مشروعٍ أجتهد في عمله وإنجازه حول (الوعي الحضاري) حيث أخبرته رحمه الله أنني لما تأملت حالة الأمة والضعف الحالي وهيمنة ثقافة واقتصاديات العولمة بآلياتها الإعلامية وشركاتها العابرة للقارات ,واليأس والإحباط الذي بدأ يدب في أبناء الأمة من الإصلاح والتغيير مع الذوبان المتوقع في الحضارات المادية الأخرى ,تحدثت معه عن الخطوات التي أنوي العمل بها في أحياء هذا الوعي من خلال إعادة التعريف بالرسالة الحضارية للأمة والعودة إلى المنطلقات الحقيقية للنهضة المرتقبة للمجتمعات الإسلامية .. وبعد أن انتهيت من كلامي إذ بي أجد هذا الشيخ الكبير يمسك بيدي ويشدّ عليها ,وقال لي :" أنطلق في مشروعك واعتبرني من جنودك ".. الحقيقة أني دهشت من كلامه وإقراره وحماسه الذي لم أجده في كثير ممن حدثتهم بمشروعي وهم أكثر شبابا وحيوية وفراغا .لكني لمست تأييده تضحيته من نظراته ونبراته وحرقة فؤاده رحمه الله , حينها علمت أني أقف أمام شخص من جيل فريد وتربية عميقة وإيمان كبير – أحسبه كذلك والله حسيبه – . تأثرت بعمق من كلماته وأفعاله , وتواعدنا أن نلتقي قريبا ونتبادل المؤلفات بعد رجوعنا إلى بلادنا ..
انتهى هذا اللقاء وعدت سريعا إلى غرفتي لأحمل أمتعتي واركب السيارة التي أقلتني إلى المطار حيث لم يفارقني خياله ومازالت كلماته تتردد في أذني ويرجع صداها في أعماقي .لقد تعلمت من موقفه ذلك أكثر مما قرأته في كثير من الكتب والمصنفات ..
لم يمضي على لقاءنا ومفارقة الدكتور البهنساوي لدنياننا بوفاته المؤثرة سوى يومين اثنين , غادرنا وهو يتنقل في أماكن عدة من الجمهوريات الإسلامية في القوقاز لخدمة الدين وبذل النصح للمسلمين ..تأثرت بخبر وفاته وكان صدمة حقيقية أن نفتقد مثل هذا العلم الشامخ , رحمه الله رحمة واسعه وأسكنه فسيح جناته .وإنا لله وإنا إليه راجعون.