يحتفل السعوديون باليوم الوطني بطريقة تختلف عما كان عليه الأمر في السابق نتيجة لتغيراتٍ فكرية وانفتاح اجتماعي يحفل بها المجتمع السعودي منذ عقد تقريبا من الزمان. واعتقد أن ما سيرافق تلك المناسبة من احتفالات وأفراح يأتي كنتيجة طبيعية لهذا الحراك المدني قبل القرار الرسمي باتخاذ إجازة رسمية في هذا اليوم. واللافت للانتباه أن الفرح و الاحتفال بأي مناسبة وطنية ينبغي أن يتسق مع الوعي بواجبات وحقوق الوطن سواء على مستوى الفرد أو المؤسسات الحكومية والأهلية,والذي لاحظته خلال الأيام الوطنية الماضية في السنوات الغابرة ؛أن هناك ممارسات وأخطاء كبرى في حق الوطن الذي نحتفل له ومن اجله ,كظواهر الإخلال بالحقوق الوظيفية من هدر للأوقات والخدمات والتسهيلات والمال العام ؛ مما يخالف بل وينقض حقيقة الوطنية؟ كما أن تضييع مكتسبات الوطن وهدر ثرواته المالية والزراعية والبيئية منافاة لصدق الانتماء الوطني , فضلا عن التلاعب على الأنظمة والالتفاف حولها خلاف المصلحة العامة , ألا يعتبر منافيا للوطنية؟. بل حصل من المخالفات المرورية والأخلاقية والذوقية من بعض المحتفلين في العام الماضي على وجه الخصوص مالا يليق أن يفعل في يوم الوطن فضلا عن بقية أيام السنة.
فالأخطاء التي تحدثنا عنها تكلف الوطن الكثير من الأموال والجهود فلماذا لنتكلف لها بالبحث والدراسة وإنفاق المال والجهد كذلك . ولعلي وقد فتحت هذا الموضوع أن اعلق على بعض المعايير الهامة في صناعة الوعي الوطني أوجزها في النقاط التالية:
1 ـ ضرورة ترسيخ الأهداف الكلية في ذهن المواطن وتنمية وسائل تحقيقها وزرعها في اللاشعور لتخرج جميع التصرفات بتلقائية نحو تلك الأهداف, وهذا يلتقي مع الهدف الأعلى لكل مسلم وهو عبادة الله عز وجل بمفهومها الشامل. فهذا يجعل كل أنشطة الحياة وسيلة لكسب رضوان الله عز وجل والنجاح في هذا الابتلاء العظيم، وهو الذي يرسخ جذور التمدن في عقول الناس وقلوبهم وسلوكهم ويدفعهم إلى العطاء المتواصل. ولو تأملنا في حال المجتمع العربي قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ كأنموذج مر بالفرد العربي وساقه نحو مدارج النهوض ـ ينظر بوضوح عظم التخلف والانحطاط في المجالات المادية والحضارية ولذلك انعدم ذكرهم في مسيرة التاريخ البشري إلا بعد بعثته صلى الله عليه وآله وسلم ,فكانت إيذانا بانبعاث حضاري شامل ومولد امة في أرقى الأمم وأقواها حضورا في العالم كله. فالناس هم الناس والديار هي الديار ولكن السبب العظيم في هذا التحول العجيب هو ذلك الوحي الإلهي الذي صنع هدف وجودهم في الحياة وأنار لهم مسالك العزة والقوة , كما قال تعالى :(وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) فالوحي كان نورا ينير الظلمات وروحا تبعث الحياة . فالوعي الوطني والتقدم المدني لا يمكن أن يحقق نتائجه ويؤتي ثماره إذا كان منعزلا عن السمو الروحي والإيمان القلبي إذ هو الفاعل الحقيقي للمدينة الراقية والمحرك الأساسي للأفراد نحو العمل والإنتاج والإنجاز والإتقان المبدع ,وهو المنظم لعلاقات الأفراد والموضح لأدوارهم وواجباتهم بمنتهى العدل والإنصاف.
2 ـ اهمية تعميق الإحساس بروح الانتماء لهذا الوطن الذي كرمه الله عز وجل بان جعله مهبط الرسالة الخاتمة ومأرز الإسلام وقبلة المسلمين و مشعل هداية ونور للناس أجمعين ,فالمحافظة على أمنه واستقراره ورقيه وتقدمه لا يخص أفراد الوطن فحسب بل المنفعة والفائدة تتعدى ذلك إلى سائر بلاد المسلمين ووجوبه الشرعي لا يقل عن واجبه الوطني ـ لمن تأمل ـ
ولا يتعمق هذا الإحساس للانتماء في نفوس الأفراد إلا بقدر الثقة المتبادلة والمنفعة المتحققة بينهم وبين مؤسسات الدولة المختلفة.
3 ـ ان وجود الانظمة والقوانين التي تحكم حياة الافراد وتنظم المجتمع شرط في تقدم المجتمع ورقيه لانها تكون تجسيدا لمبادىء المجتمع في الحقوق والواجبات ولذلك تجده في المجتمعات المتمدنة يظل محترما من الكل كما كان عليه العهد في صدر الاسلام. اما في المجتمعات المتخلفة فان القانون يكون أداة لتامين مصالح الجهات النافذة ولذلك فانه لا يلقى التقدير من احد ولا يشايعه إلا المستفيدون منه. والى هذا أشار صلى الله عليه واله وسلم محذرا أمته بقوله: (إنما اهلك الذين كانوا قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم القوي تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحق)
ومعظم مجتمعات الأرض محكومة اليوم بقوانين ودساتير ولدى حكوماتها نظام قضائي عتيد لكن المجتمعات التي ليس لها من المدنية سوى القشور مصابة بداء (الازدواج القانوني) حيث أن لديها بجوار كل قانون مكتوب قانونا غير مكتوب.. وهذا الأخير هو الوجه والقانون المكتوب هو القناع والحق دائما مع من يدفع أكثر أو يخيف أكثر.
4 ـ المناخ الذي يصنع فيه الوعي الوطني يتطلب استعدادا حقيقيا من كل الفئات العرقية والطبقات الاجتماعية وأصحاب الأفكار والثقافات للتنازل عن جزء من خصوصياتهم الفكرية والاجتماعية لصالح الإطار الوطني العام الذي يراد للجميع الاندماج فيه. وهذا الإحساس بالآخرين والتضحية من اجلهم أهم درجات الرقي في الحياة المدنية والمتأمل في الأثر الإسلامي الذي مر على الجزيرة العربية المتصارعة على النفوذ والمتقاتلة على أتفه الأسباب ليجد أن الإسلام جمع شتاتهم ودمجهم على اختلافهم وتباينهم في فترة يسيرة وفي هوية حضارية واحدة ينتمي لها طيف واسع من البشر.
5 ـ من أهم مقومات الوعي الوطني الحضاري تفعيل دور المؤسسات التربوية والتعليمية و الاعلامية في رفع مستوى الوعي لدى الافراد والمجتمع. ان التخطيط الهادف الواعي المتكامل لصياغة شخصية الفرد وبناء الوعي الحضاري لديه هو ما يجب ان تقوم به مؤسساتنا التعليمية والتربوية في كل مراحلها التعليمية فالمدارس والجامعات والاسر والمناهج الدراسية والمعلمون والخبطاء وائمة المساجد. كل اولئك يجب ان يسهموا في هذا المشروع العظيم ويتكاتفوا في تحقيقه تحت شعار (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) كما أن الإعلام يعتبر في العصر الحاضر من أهم واخطر الوسائل في تقدم الأمم او تخلفها و مالم يحمل مبادىء وقيما حضارية رائدة يترفع فيها عن الابتذال والإثارة ومحاكاة الغير بعمى وقلة بصيرة والا فانه وسيلة هدم سريع مهما كان البناء عتيدا والبناة كثرا.