الفقه الإسلامي من أهم إنجازات الأمة في عصورها الماضية , حتى في عصور التقهقر والانحطاط كان للفقه دورٌ مميزٌ في حفظ التراث العلمي و لو جاء بشكل أفقي إلا أنه ساهم في توسيع دوائر المصنفات الفقهية سواء كانت هوامش على متون أو شروح لمدونات و مختصرات أو تعليقات وفتاوى لآحاد الأئمة , وقد أدرك فقهاء اليوم أن لهذه الفروع أهمية كبرى من حيث تخريج المستجدات عليها أو من خلال الاستئناس بالعدد الهائل من ذاك الرصيد الفقهي المتنوع في تنظيم مجالات الحياة بثروة قانونية لا مثيل لها .
والفقيه كإنسان مدني في علاقاته وتفاعلاته مع مجتمعه يتأثر بمن حوله من أحداث أو أشخاص فكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على آراءه واختياراته الفقهية من حيث المرونة و الشدة أو من حيث الانفتاح والانغلاق , وهذه الطبائع البشرية والتباينات البيئية أنتجت فروقات ملحوظة بين المدارس الفقهية في بعض العصور , فعلى سبيل المثال :فقه الأحناف فيما وراء النهر خصوصا في أبوب العلاقات مع المخالفين يختلف من حيث كثرة الفروع وواقعيتها وقدرتها على التعايش والاستيعاب من فقه الحنابلة في الشام , كذلك فقه مالكية الأندلس في التنوع والتجديد يختلف عن فقه الشافعية في مصر ؛ بل حتى الفقيه الواحد تتعدد آراءه تبعا للمتغيرات الخارجية أو المؤثرات الداخلية كما حصل للإمام الشافعي في القديم والجديد ومحمد بن الحسن الشيباني في مخالفته لشيخه الإمام أبو حنيفة وابن حزم في بعض مراحل حياته . ولكن أعمق أثر -من وجه نظري- تعيق أو تشجع التغير أو التطور لدى الفقيه هي العوامل السياسية والمتغيرات الدولية المتسارعة بشكل لا تسمح لمتأمل أن يدرك أبعادها أو يخوض في أسبابها وآثارها, والفقيه المعاصر مثله مثل بقية مفكري مجتمعه من حقه أن يحلل ويستنتج رؤاه السياسية حيال أي قضية يعيشها أو يسمع بها في العالم , لكن الإشكال يحدث عندما يقرأ الفقيه الواقع السياسي من خلال أدوات معرفية قاصرة تحجب الحقيقة أكثر من أن تظهرها وتغبّش الواقع بجمال الصورة الإعلامية الخادعة !؛فيبني على تلك المعطيات البسيطة أو السطحية أحكاما شرعية بالحرمة أو الجواز تنطبع في نفوس المتلقين ويستجيبون لها بقوة الشرع وقدسية أحكامه , كما يحدث أن يفتي بعض الفقهاء بالحرمة المطلقة بالإقرار بجدوى المحاكم الدولية والمواثيق الأممية حتى في دفع الضرر كونها طاغوتا أكبر يحكم بغير ما أنزل الله , أو إعطاء الشرعية لنظام مستبد أو لمخادع بالدين , وقد حكى التأريخ عن أولئك الفقهاء الذين أعجبوا بنابليون حينما مارس معهم بعض طقوسهم الدينية ليحتل بلادهم بالعمامة والجلباب الديني؟!, وقد يُستغل الفقيه في بناء أحكامه من خلال واقع لم يعرفه إلا من خلال أعين الساسة ,ومصلحة لم يعتبرها إلا من خلال تقديرهم , والعادة في المصلحة السياسية أنها آنية المطلب متقلبة المزاج تخضع للعبة الدولية ؛بينما الحكم الشرعي الذي يقوم على دليل المصلحة لابد من توافر شروط المصلحة المعتبرة ؛كأن تكون حقيقة غير متخيلة ,عامة غير قاصرة, يقينية أو ظنها غالب وليست شكوكا وأوهام , وكم يكون الخلط عظيما عندما ينساق الفقيه نحو السياسي في تصوراته ويشرّع لمصالحه المتقلبة ؟! , وفي تاريخنا نماذج أخطأ فيها الفقهاء عندما ركبوا موج الأحداث السياسية بغير فقه أصيل ونظر أصولي عميق كما في فتنة الفقهاء مع ابن الأشعث وقتالهم للحجاج بينما كان موقف الحسن البصري الحذر من الركون إلى السيف في التغيير والإصلاح, وكما حصل ويحصل دائما من الدخول في تحالفات السلطة ودعم الانتخابات و حث الجماهير في الدخول في المعتركات السياسية , مثل أزمة الفتاوى والتصعيد أثناء حرب الخليج الثانية ,أو ما حصل في انتخابات 1992م في الجزائر ,أو الموقف من الطائفية أثناء حرب لبنان الماضية ,كلها شواهد على أثر التقاطعات المنهجية وخطرها على علاقة الفقيه بالسياسة .
وأعتقد أن الإحجام والتغافل الشديد عما يقع للأمة من نوازل ليس هو الحل الأمثل الذي نريده من فقهاء الأمة أو ننشده في علاج أزمة الأدوار المتداخلة بين الفقيه والسياسي , لكن المنهج الأمثل أظنه في إحياء دور الشورى التي كانت أساس النظر في الشأن العام للأمة إقتداء بأفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وهما الصاحبان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما , فمع سعة علمهم ومعرفتهم للتأويل ومشاهدتهم للتنزيل لم ينفكا عن الشورى في كل أحوالهما بل منعوا بعض الصحابة من حق التنقل والسفر من أجل مصلحة الرجوع إليهم في نوازل الأمة ومشكلاتها , كما أن النظر في جذور الخلل والكشف عن مكامن الزلل في واقع الأمة قد يكون أولى وأحرى من مغالبة السياسي في سلطته ومنازلة الإعلامي في منبره من غير فائدة سوى تسجيل المواقف وحفظها في أرشيف الهوان والنسيان .