أتساءل أحيانا عن جدوى تصحيح صورتنا الدينية عند الأديان الأخرى خصوصا في وقتنا المعاصر ؛ الذي بات أكثر المنتمين للديانات الأخرى إما ملاحدة أو لادينيين وهؤلاء لا ينفعهم صحة دينك أو بطلانه بقدر ما يؤثر فيهم وجود قدر من المصالح المشتركة وحاجتهم لك وفق معايير لا تنطلق من المرجعية الدينية ,أو قد يكون المقابل من أصحاب الديانات متدين لا يمكن أن يغير معتقده من خلال خطاب إعلامي أو مناورات سياسية قد لا تؤثر في موقفه المسبق منك, وأحيانا ونحن نجتهد في إبراز الصورة الحسنة عن الإسلام للغربيين نحاول بعنف التقريب بين الأديان وجمعها ولم شملها في بيانات مشتركة لا تخلو من المجاملات السياسية , وأعيد تساؤلي مرة أخرى ؛ هل الإسلام في وقت سلمه مع أصحاب تلك الديانات مارس التقريب الديني أم التعريف بالدين وربط العلاقات بالمصالح التي تحقق قدر كبير من المنافع المادية للطرفين ؟ ومن ثمَّ تأطير العلاقة بين متكافئين و ليس فيها متهم يبحث عن أدلة البراءة من خصمه المقابل .
كذلك تقفز للذهن تساؤلات أخرى عن العلاقة التي بدأت تسمى في وقتنا الحاضر (بنحن والأخر) وكل جواب على تحديد هذه العلاقة لن يسلم من النقد الجارح من الأخر الداخلي و أظن أن المنطق العقلي يقتضي كجواب على تلاقي الأنا والأخر أن هذا لا يمكن أن يجتمع على شيء واحد في نمط متحد كاستحالة الجمع بين الليل والنهار والسواد والبياض, ولكن السؤال الصحيح الذي ينبغي أن يُطرح في علاقتنا مع الآخر هو : هل يمكن أن يجتمع المختلفان ؟ .. والمنطق هنا يقتضي أيضاً بامكانيته عقلا وجوازه شرعا. فقد نختلف مع غيرنا إلى حد التباين لكن تبقى هناك الكثير من العوامل المشتركة تجمع بيننا قد تحددها الظروف المحيطة والمصالح المتبادلة وليست الشواهد النبوية ببعيدة عنا بل هي حاضرة وماثلة في المعاهدة مع اليهود أو الصلح مع المشركين أو أحكام أهل الذمة والمعاهدين مما يقرر و يؤصل منهج التعامل مع الأخر والتعايش معه .
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كمفصل تاريخي للعلاقة مع الغرب خرجت من بيننا أصوات و أطروحات عدة تدعو للتعايش والقبول بالآخر, بل وتذويب الفروق العقدية والتاريخية بيننا , بينما قابل الأخر ذلك بثقافة الصدام بين الحضارات ونهاية العالم وتدنيس المقدسات بل وكتب جمع من المثقفين الامريكان بيانا للعالم أسموه " على أي أساس نقاتل " تبريرا لكل صور الاعتداء والقمع والتدخل السافر في شؤون الآخرين , كما جاء في الطرف المقابل من جعل لغة القتل والتدمير وسيلة التفاهم مع الآخر .. لذا هناك ملامح لابد أن تظهر في دعواتنا للحوار والتعايش مع الآخر يمكن أن نجمل الرأيّ فيها في النقاط التالية :
1- لقد تم التعامل مع الآخر على أنه شكل واحد ونمط ثابت ذابت كل الفروقات المتناقضة في شخصه الجديد واختفت الندوب من وجهه المقنع بينما ظهرت ذواتنا في إعلامه وثقافته بأشكال غريبة و تهم إرهابية وتغليب للقلة الناشزة على الكثرة الصامتة أو المعتدلة التي تمثل الطيف الواسع الحقيقي لمبادئنا الدينية وثقافتنا الفكرية . فلا يمكن والأمر كذلك أن يتقبل كل طرف الأخر ما لم تصحح الصورة النمطية التي صنعها الإعلام عن المقابل . فالحوار والتعايش هو نبض المجتمعات , والأفراد هم الميدان الحقيقي لنجاح أو فشل هذا المناخ , وأصوات الصقور والغربان لا تعلو إلا في ساحات المعارك والاقتتال بينما معركتنا الراهنة هي معركة الوعي الديني والتنمية المستدامة والحضارة الرائدة ؟؟
2- يروج لدى بعض المثقفين الغرب أن الدين الإسلامي يقصي الآخر ويحارب الأديان والثقافات الأخرى و هذا الاتهام قد تكلم في ردّه و إبطاله الكثير من علمائنا المسلمين والشواهد الشرعية والتاريخية مازالت بين ايدينا لم يتقادمها الدهر بل تجددت روحها مع كل أزماتنا المختلفة, لكن الأمر يبدو غريبا عندما نجد تلك التهم هي الأقرب التصاقا للفلسفة والفكر الغربي الأوروبي ابتداءً من فلاسفة اليونان كأرسطو القائد الروحي لفتوح الأسكندر المقدوني بكل فضاعاتها , إلى قوانيين الرومان التعسفية التي قزّمت وعبّدت كل الشعوب الأخرى , وصولا إلى عصر التنوير الأوربي المنتج للفكر الغربي الحديث , فاشهر مفكري تلك المرحلة كديكارت كان يرى مفارقة بين الأنا الفردية الواعية وبين الغير لأن عملية الشك المعرفي التي يصل بها إلى الحقيقة لا تتم إلا من خلال إقصاء الغير والتجرد من كل الموروثات الاستدلالية بينما, هيجل لا يرى اعترافا بالذات إلا من خلال اعتراف الأخر بها . واعتراف أحد الطرفين بالآخر لابد أن ينتزع. هكذا تدخل الأنا في صراع حتى الموت مع الغير، وتستمر العلاقة بينهما في إطار جدلية العبد والسيد. هكذا يكون وجود الغير بالنسبة إلى الذات وجودا ضروريا عند هيجل .فهذان النموذجان من التطرف في النظر إلى الآخر لا ينسحب على كل المفكرين المؤثرين في الغرب بل هناك الكثير من العقلاء المعتدلين المنصفين سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات وهم من ينبغي التحاور ومد الجسور واستمرار التواصل معهم , وعليهم ينبغي التركيز والاهتمام بدلا من صرف ذلك نحو المؤسسات التجارية أو الإعلام المؤدلج أو الحكومات العسكرية التي لا تنظر إلا مصلحتها وامتداد سيطرتها على الأخر باسم الحوار والتعايش.
3- غُلّب مصطلح الأخر في القرن الماضي على الغرب الأمريكي والأوربي والمعطيات الديمغرافية والتنموية تشير أن المستقبل للقوى الشرقية كالهند والصين واليابان بالإضافة إلى دول الجنوب الأفريقي أو اللاتيني ؛ فهي لا تحمل إرثا معاديا للإسلام ومؤشرات نموها وموقعها وأثرها على منطقتنا كبير . واعتقد أن المردود الايجابي من التحاور معهم سيفتح لنا بعدا قيميا في علاقتنا وخيارا استراتيجيا يعادل موازين القوى في العالم . وهذا ما نحتاجه من مراكزنا البحثية أن تكرّس جهدها في دراسة تلك المجتمعات وفتح الأفق للتبادل المعرفي ونشر قيمنا الإسلامية فيها .
فإذا أردنا مستقبل حوار ناجح مع الآخر فهو لمن يمد يده ليسلم ويصافح وليس لمن يمدها ليخادع بالتسامح .