النساء شقائق الرجال :
من فضل الإسلام على المرأة أنه كرَّمها، وأكَّد إنسانيتها ، وأهليتها للتكليف والمسؤولية والجزاء ودخول الجنة ، واعتبرها إنساناً كريماً ،له كل ما للرجل من حقوق إنسانية ، لأنهما فرعان من شجرة واحدة،وأخوان ولدهما أب واحد هو آدم، وأم واحدة هي حواء .فهما متساويان في أصل النشأة ، ومتساويان في الخصائص الإنسانية العامة، ومتساويان في التكاليف والمسؤولية،متساويان في الجزاء والمصير،ولا قوام للإنسانية إلا بهما.
ويشهد على ذلك آيات عدة منها قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعـَلْنَاكُمْ شُـعُوبًا وَقَبَائِلَ لِـتَعَارَفُوا إِنَّ أَكـْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتـْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ الحجرات 13
• و قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً النساء1 .
• وقوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلـَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الأعراف 188
• وقوله تعالى : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسـِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً النحل 72.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إنما النساء شقائق الرجال )).(1)
إن عبودية المرأة لله كعبودية الرجل له سواء بسواء ، وهما مطالبان بالإيمان وإقامة الواجبات وهذا أمر مجمع عليه. يقول تعالى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ النحل 97 .
ولهذا جمع الله تعالى بينهما في الوصف المترتب على أعمالهما ووعد الجميع بالجزاء الواحد في الآخرة يقول تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا الأحزاب35
* وللرجال عليهن درجة :
إن المساواة التي جعلها الشرع بين المرأة والرجل ، ليست على وجه العموم والإطلاق، بل اقتضت حكمة الشارع سبحانه وتعالى بأن يُفَضَّلَ الرجلُ عليها في بعض المواقف والأحوال ، ويُمَيَّز في بعض الأمور والأحكام .
وهذا التمييز بين الرجل والمرأة اقتضته طبيعة الخلقة والفطرة لكلٍ منهما كما في الشهادة، والميراث ، والدية ، وقوامة المنزل ، ورياسة الدولة ، وحتى في بعض الأحكام المتعلقة بالصلاة والصيام والجهاد وغيرها.(2)
أما التفضيل الحقيقي فإنه يرجع إلى حقيقة التقوى والالتزام بها : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ الحجرات 13 ومع هذا فالأصل كما هو مقرر عند أهل العلم أن كل ما هو للرجل فهو للمرأة من أحكام وتشريعات وحقوق إلا ما جاء النص على خلافه ,فالنساء يدخلن في خطاب الرجال عند جمع من الأصوليين.(1)
معالم في منهجية الخطاب الإسلامي للمراة.
أولاً: ضرورة التمييز في قضايا المرأة وأحكامها بين القطعي والظني وبين الثابت والمتغير , واعتقد أن الخلط بينهما زاد من ضراوة الاختلاف بين المتنازعين . في حين أن أصل المسالة لم يحرر من الناحية الفقهية , ولم يعرف ما هو من قبيل السائغ من الاجتهاد أو مما لا يجوز الاجتهاد فيه . ولهذا يعذر المخالف في الظني الذي يسوغ فيه النظر والاجتهاد ولا يعذر المصادم للنصوص والإجماعات القطعية التي لا تقبل النسخ أو التأويل .
و القاعدة في هذا الباب : "لا إنكار في موارد الاجتهاد"(2)
يقول ابن تيمية : " مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به ، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين "(3)
فلا إنكار إلا ما ضعف فيه الخلاف أو كان ذريعة إلى محظور متفق عليه كما ذكره القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية .(4)
ثانيا: من المقرر شرعاً أن هذا الدين بُني على اليسر ورفع الحرج وأدلة ذلك غير منحصرة يقول عز وجل : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (5)، ويقول عليه الصلاة والسلام : (( إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً ))(6). ولكن المتأمل في حال كثير من فتاوى المرأة المعاصرة يجد أن هناك نوع تشدد وتضييق يخالف مقاصد التيسير ورفع الحرج , وقد يكون السبب في ذلك : التعصب للمذهب أو للآراء أو لأفراد العلماء بحيث يجعل منها نصوصاً للولاء والبراء ويعتقد فيها الحق الذي لا يحيد عنه إلا ضال , وهذا لا شك نوع انغلاقٍ في النظر وحسن ظنٍ بالنفس وتشنيع على المخالف والمنافس , مما يولد منهجاً متشدداً يتَّبعه الفقيه أو المفتي بإلزام الناس بمذهبه في النظر وحرمة غيره من الآراء و المذاهب ؛ مما يوقعه وإياهم في الضيق والعنت بالانغلاق على هذا القول أو ذاك المذهب دون غيره من الآراء و المذاهب الراجحة .
يقول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم)).(7)
مع العلم بأن مذهب جمهور العلماء عدم إيجاب الالتزام بمذهب معين في كل ما يذهب إليه من قول.(1)
فيصبح حال أولئك النساء إما بحثاً عن الأقوال الشاذة والمرجوحة فيقلدونها ولن يعدموها ، وإما ينبذون التقيد بالأحكام الشرعية في شؤون حياتهم وهي الطامة الكبرى، ولو وسَّع الفقهاء على الناس في بعض المسائل التي أضحت من أولوياتهم واحتياجاتهم كمجالات عمل المرأة ومشاركاتها الاجتماعية ومعاملاتها المالية والاقتصادية وبعض مسائل الترويح والترفيه والرياضة ؛ وضبطوا لهم صور الجواز واستثنوا منها صور المنع ووضعوا لهم البدائل الشرعية خيراً من أن يحملوا الناس على هذا المركب الخشن من المنع العام والتحريم التام لكل تلك القضايا النازلة.(2)
ومن مظاهر التشدد والانغلاق التمسك بظاهر النصوص فقط دون فقهها ومعرفة مقصد الشرع منها . والحكم بالحل والحرمة على ظاهر اللفظ دون اعتبار دلالات فهم النصوص أو العوارض المؤثرة عليها من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويلات معتبرة كما هو الشأن في صوت المرأة ووضع عباءتها وبعض مسائل الزينة واللباس ..
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : (( لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أوتحريمه أو إيجابه أو كراهيته..قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا أو حرّم كذا ، فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ، ولم أحرمه.(3)
أما الغلو في سد الذرائع والمبالغة في الأخذ بالاحتياط عند كل خلاف فهذه سمة واضحة ومعلم بارز لهذا المنهج حمل كثير من الفتاوى المتعلقة بالمرأة نحو الغلو والتشدد .
وقد دلت نصوص كثيرة على اعتبار سد الذرائع والأخذ به حماية لمقاصد الشريعة وتوثيقاً للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد . ولله در ابن القيم ـ رحمه الله ـ إذ يقول :-
((فإذا حرّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه ، وتثبيتاً له، ومنعاً من أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصاً للتحريم وإغراءً للنفوس به)).(4)
ويحدث الإشكال في اعتبار قاعدة سد الذرائع عندما تؤول المبالغة في الأخذ بها إلى تعطيل مصالح راجحة مقابل مصلحة أو مفسدة متوهمة يظنها الفقيه ؛ فيغلق الباب إساءةً للشرع من حيث لا يشعر كمن ذهب إلى منع زراعة العنب خشية اتخاذه خمراً ، والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا ، أو من منع فتح المدارس للبنات خشية الفجور والوقوع في الفساد , .. فهذه الأمثلة وغيرها اتفقت الأمة على عدم سده ، لأن مصلحته راجحة فلا تترك لمفسدة مرجوحة متوهمة.(1)
ولا تزال ترد على الناس من المستجدات والوقائع بحكم اتصالهم بالأمم الأخرى من العادات والنظم ما لو أغلَق المفتي فيه على الناس الحكم وشدّد من غير دليل وحجة ؛ لانفض الناس من حول الدين وغرقوا فيها من غير حاجة للسؤال، ولذلك كان من المهم سد الذرائع المفضية إلى مفاسد راجحة وإن كانت ذريعة في نفسها مباحة كما ينبغي فتح الذرائع إذا كانت تفضي إلى طاعات وقربات مصلحتها راجحة.(2)
و من الغلو والتشدد الأخذ بالاحتياط في كل مسألة خلافية ينهج فيها المفتي نحو التحريم أو الوجوب سدّاً لذريعة التساهل في العمل بالأحكام أو منعاً من الوقوع في أمرٍ فيه نوع شبهة يخشى أن يقع المكلف فيها ، فيجري هذا الحكم عاماً شاملاً لكل أنواع الناس والأحوال والظروف . فمن ذلك منع عمل المرأة ولو بضوابطه الشرعية ووجود الحاجة إليه.(3)
ويجب التنبيه ـ في هذا المقام ـ على أن العمل بالاحتياط سائغ في حق الإنسان في نفسه لما فيه من الورع واطمئنان القلب ، أما إلزام العامة به واعتباره منهجاً في الفتوى فإن ذلك مما يفضي إلى العنت وضع الحرج عليهم.(4)
ثالثاً: ظهر ضمن مناهج الفتيا في مسائل المرأة منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير ، وتعتبر هذه المدرسة في النظر والفتوى ذات انتشار واسع على المستوى الفردي والمؤسسي خصوصاً أن طبيعة عصرنا الحاضر قد طغت فيه المادية على الروحية ، والأنانية على الغيرية ، والنفعية على الأخلاق ، وكثرت فيه المغويات بالشر والعوائق عن الخير ، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال تحاول إبعاده عن دينه وعقيدته ولا يجد في كثير من الأحيان مَنْ يعينه بل ربما يجد من يعوقه .
وأمام هذا الواقع دعا الكثير من الفقهاء إلى التيسير ما استطاعوا في الفتوى والأخذ بالترخص في إجابة المستفتين ترغيباً لهم وتثبيتاً لهم على الطريق القويم.(5)
ولاشك أن هذه دعوى مباركة قائمة على مقصد شرعي عظيم من مقاصد الشريعة العليا وهو رفع الحرج وجلب النفع للمسلم ودرء الضرر عنه في الدارين ؛ ولكن الواقع المعاصر لأصحاب هذا التوجه يشهد أن هناك بعض التجاوزات في اعتبار التيسير والأخذ بالترخص وربما وقع أحدهم في رد بعض النصوص وتأويلها بما لا تحتمل وجهاً في اللغة أو في الشرع .
وضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يسوّغ التضحية بالثوابت والمسلمات , أو التنازل عن الأصول والقطعيات مهما بلغت المجتمعات من تغير وتطور . فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان .
و المصلحة المعتبرة شرعاً ليست بذاتها دليلاً مستقلاً بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس فيستحيل عقلاً أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه وقد أُثبتت حجية المصلحة عن طريق النصوص الجزئية فيكون ذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهذا باطل.(1) وبناءً على هذا الخلل التقعيدي خرجت بعض الفتاوى تبيح للمرأة ممارسة الرياضات المختلطة بالرجال, وتسمح لها بالترشح في منا صب الدولة العليا , ولاتمنع سفور المرأة وخروجها من غير حجاب زاعمين خصوصية الحجاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ...
ومن سمات هذا المنهج في الفتيا تتبع الرخص والتلفيق بين المذاهب دون حاجةٍ يضطر إليها المفتي، والتنقل من مذهب إلى آخر والأخذ بأقوال عددٍ من الأئمة في مسألة واحدة بغية الترخص ، كمن أفتى بجواز تمثيل المرأة وغناها أمام الملأ , وجواز الاختلاط مع الرجال من غير حاجة ..إلى غيرها من الفتاوى الطائرة في هذا الباب . فهذا المنهج قد كرهه العلماء وحذَّروا منه ، وإمامهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ((إني أخاف عليكم ثلاثاً وهي كائنات : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تفتح عليكم )).(2) فزلة العالِم مخوفة بالخطر لترتب زلل العالَم عليها فمن تتبع زلل العلماء اجتمع فيه الشر كله . وقد تظهر ملامح هذه المدرسة من خلال التحايل الفقهي على أوامر الشرع ؛ وقد جاء النهي في السنة عن هذا الفعل حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل))(3) .
وعلى ذلك اتفق أكثر أهل العلم على عدم تجويز الحيل الموقعة في المحارم بتلبيسها ثوب الآراء الشاذة والفتاوى الملفقة .(4) وذهب الإمام القرافي ـ رحمه الله ـ إلى أبعد من ذلك بقوله : (( لا ينبغي للمفتي : إذا كان في المسألة قولان : أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف ؛ أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين ، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى و إجلاله وتقواه ، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين )).(1)
رابعاً : الشريعة الإسلامية شريعة تتميز بالوسطية واليسر ولذا ينبغي للناظرين في أحكام النوازل من أهل الفتيا والاجتهاد أن يكونوا على الوسط المعتدل بين طرف التشدد والانحلال كما قال الإمام الشاطبي -رحمه الله- : ((المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال . والدليل على صحة هذا أن الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة؛ فإنه قد مرّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين ؛ خرج عن قصد الشارع ولذلك كان مَنْ خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين)).(2)
ومن الإشارات المهمة التي ينبغي للمفتي في قضايا المرأة الاهتمام بها والسير بها على المعهود الوسط :
1: أن يبذل المجتهد وسعه في البحث عن الحكم الشرعي للنازلة بتتبع طرق الاستنباط المعروفة والجري في ذلك على سنن النظر المعهودة، فقد يجد الحكم منصوصاً عليه أو قريباً منه، وقد يلجأ إلى القياس على الأدلة، أو التخريج على أقوال الأئمة، مع مراعاة عدم مصادمة حكمه للنصوص والإجماعات الأخرى أو مخالفتها للعقول الصحيحة والفطر السليمة فهذا مسلمٌ اعتباره في الشريعة .
كذلك عليه أن يبين البديل المباح عند المنع من المحظور وهذا الأدب له من الأهمية في عصرنا الحاضر القدر العظيم ، وذلك أن كثيراً من المستجدات الواقعة في مجتمع المرأة قادم من مجتمعات كافرة أو منحلة لا تراعي القيم والثوابت الإسلامية كبعض مظاهر اللباس والزينة والتجمل وحتى في بعض الميول والهوايات النسوية؛ فالعالم أصبح بيتاً واحداً مشرع الأبواب والنوافذ . فيحتاج الفقيه إزاء ذلك كله أن يقرّ ما هو مقبول مباح شرعاً ويمنع ما هو محظور أو محرم مع بيانه لحكمة ذلك المنع وفتح العوض المناسب والاجتهاد في وضع البدائل المباحة شرعاً حماية للدين وإصلاحاً للناس، وهذا من الفقه والنصح في دين الله عز وجل .
كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: (( من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه وكانت حاجته تدعو إليه ؛ أن يدله على ما هو عوض له منه ، فيسد عليه باب المحظور ويفتح له باب المباح وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر مع الله وعامله بعلمه)).(3)
ولا ينبغي للفقيه المبصر أن يترك النظر إلى المآلات المفضية لفتواه , ومعناه أن ينظر المجتهد في تطبيق النص، هل سيؤدي إلى تحقيق مقصده أم لا ؟ فلا ينبغي للمفتي في قضايا المرأة التسرع في حكمه بالحظر أو الإباحة حتى يعرف مايؤول إليه الحكم من مفاسد ومضار فيسد الذرائع المفضية إليها , أو يرى المصالح و المنافع المترتبة على حكمه فيفتح الذرائع المفضية إليها بالإباحة والجواز.
وقاعدة اعتبار المآل أصل ثابت في الشريعة دلت عليها النصوص الكثيرة بالاستقراء التام.(1)
2: فقه الواقع المحيط بالنازلة :
ويقصد بهذا الضابط أن يراعي الناظر في النوازل عند اجتهاده تغيّر الواقع المحيط بالنازلة سواءً كان تغيراً زمانياً أو مكانياً أو تغيراً في الأحوال والظروف وعلى الناظر تبعاً لذلك مراعاة هذا التغير في فتواه وحكمه .
وذلك أن كثيراً من الأحكام الشرعية الاجتهادية تتأثر بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية والبيئية ؛ فالأحكام تنظيمٌ أوجبه الشرع يهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد ، فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة ، فكم من حكم كان تدبيراً أو علاجاً ناجحاً لبيئة في زمن معين، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه ، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق . والمتأمل في واقع المرأة المعاصر يلحظ التغيرات التي اعترت حياتها والتبدل الذي أصاب واقعها الراهن , فالجمود على فتاوى وقعت في زمن تغير حاله دون تغيير هذه الفتوى غلط على الشريعة وتعدٍ على صلاحيتها في كل زمان ومكان . وسأفصل الحديث في تغير الفتاوي نظراً لتغير ظروفها في المسألة القادمة.
وختاماً : أجد من المهم التأكيد على أن ما سبق عرضه إنما هو إشارات عاجلة لبعض الضوابط العاصمة في مجال فتاوى المرأة , ولم أرغب في الغوص في ذكر الوقائع والمسائل المستجدة في هذا المقام حتى لا يُشغل الفكر بها عما هو أهم وأحرى في البيان . كما أحب التأكيد على عِظم منزلة الإفتاء في الشريعة وأنها التوقيع عن رب العلمين فيما ينزل بالمسلمين من قضايا وأحكام , ولذا كان الاجتهاد الجماعي صيانة وحفظاً لهذا المقام من الزلل أو الوقوع في الخطأ ؛ فينبغي لأهل الفتوى تحري هذا الأمر والعمل به قدر المستطاع , ولا يعني هذا التقليل من شأن الفتاوى الفردية فلها أهمية واضحة بشرط أن لا ينساق المفتي مع هوى العامة أو الخاصة أو يتأثر بضغط الواقع والظروف الراهنة .
3:تغير الفتيا بتغير الأحكام :
ويقصد بهذا الضابط أن يراعي الناظر في النوازل عند اجتهاده تغيّر الواقع المحيط بالنازلة سواءً كان تغيراً زمانياً أو مكانياً أو تغيراً في الأحوال والظروف وعلى الناظر تبعاً لذلك مراعاة هذا التغير في فتواه وحكمه.
وذلك أن كثيراً من الأحكام الشرعية الاجتهادية تتأثر بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية والبيئية ؛ فالأحكام تنظيمٌ أوجبه الشرع يهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد ، فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة ، فكم من حكم كان تدبيراً أو علاجاً ناجحاً لبيئة في زمن معين، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه ، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق .
ومن أجل هذا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير من المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهاؤهم الأولون ، وصرّح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق في المجتمعات ، فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين.
من فقهاء مذاهبهم، بل لو وُجِدَ الأئمة الأولون في عصر المتأخرين وعايشوا اختلاف الزمان وأوضاع الناس لعدلوا إلى ما قال المتأخرون .( )
وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة : (( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان )) ( ) .
ومن أمثلة هذه القاعدة :
- أن الإمام أبو حنيفة-رحمه الله- يرى عدم لزوم تزكية الشهود ما لم يطعن فيهم الخصم ، اكتفاء بظاهر العدالة، وأما عند صاحبيه أبي يوسف ومحمد ـ رحمهما الله ـ فيجب على القاضي تزكية الشهود بناء على تغير أحوال الناس . ( )
- كذلك أفتى المتأخرون بتضمين الساعي بالفساد لتبدل أحوال الناس مع أن القاعدة : (( أن الضمان على المباشر دون المتسبب )) وهذا لزجر المفسدين .( )
- ومـن الفـتاوى ما ذهـب إليـه شـيخ الإستلام ابن تيـمية وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله ـ في تقييد مطلق كلام العلماء وقالوا بإباحة طواف الإفاضة للحائض التي يتعذر عليها المقام حتى تطهر ( ) ، وقد عمل بها بعض العلماء المعاصرين مراعاة لتغير أحوال الناس .
- كذلك جواز إغلاق أبواب المساجد في غير أوقات الصلاة في زماننا مع أنه مكان للعبادة ينبغي أن لا يغلق وإنما جُوِّزَ الإغلاق صيانة للمسجد من السرقة والعبث . ( )
إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة التي غيَّر فيها الأئمة المتأخرون كثيراً من الفتاوى بسبب تغير الأزمنة واختلاف أحوال الناس.( )
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في فصل :( تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد ): (( هذا فصل عظيم النفع جداً وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور ، ومن الرحمة إلى ضدها ، ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل ))(1).
ولعل هذا النص النفيس للإمام الجليل ابن القيم ـ رحمه الله ـ أن يكون مناراً لأهل النظر والاجتهاد يهتدون به في بحثهم واجتهادهم من أجل أن يراعي المجتهد أو المفتي في أثناء اجتهاده ونظره الظروف العامة للعصر والبيئة والواقع المحيط بالناس ، فرب فتوى تصلح لعصر ولا تصلح لآخر ، وتصلح لبيئة ولا تصلح لأخرى ، وتصلح لشخص ولا تصلح لغيره ، وقد تصلح لشخص في حال ، ولا تصلح له نفسه في حال أخرى.
ولأهمية هذا المقام يمكن أن نذكر بعض الضوابط المهمة التي ينبغي أن يراعيها الناظر عند تغيّر الأزمنة أو الأمكنة أو الظروف لتحقق تغير الفتوى عندها ، ويمكن أن نوجزها فيما يلي :
1- أن الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير بمرور الزمان ولا بتغير الأحوال وكون الحكم الشرعي يختلف من واقعة إلى واقعة بسبب تغير الزمان أو المكان أو الحال ليس معناه أن الأحكام مضطربة ومتباينة بل لأن الحكم الشرعي لازم لعلته وسببه وجارٍ معه ، فعند اختلاف أحوال الزمان والناس تختلف علة الحكم وسببه فيتغير الحكم بناءً عليه .(2)
2- أن الفتوى لا تتغير بحسب الهوى والتشهي واستحسان العباد واستقباحهم بل لوجود سبب يدعو المجتهد بإعادة النظر في مدارك الأحكام ، ومن ثمَّ تتغير الفتوى تبعاً لتغير مدركها نتيجةً لمصالح معتبرة وأصول مرعية ترجح على ما سبق الحكم به .
3- أن تغير الفتوى يجب أن يكون مقصوراً على أهل الاجتهاد والفتوى وليس لأحدٍ قليل بضاعته في العلم أن يتولى هذه المهمة الصعبة، وكلما كان النظر جماعياً من قِبل أهل الاجتهاد كان أوفق للحق والصواب.(3)
المقصود بالعرف أو العادة عند الأصوليين : (( هو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول ))(4) .
وقد جرى الفقهاء على اعتبار العادة والعرف والرجوع إليها في تطبيق الأحكام الشرعية في مسائل لا تعد لكثرتها ، منها : سن الحيض ، والبلوغ ، والإنزال ، والأفعال المنافية للصلاة ، والنجاسات المعفو عنها، وفي لفظ الإيجاب والقبول وفي أحكام كثيرة جداً من مسائل البيوع والأوقاف والأيمان والإقرارات والوصايا وغيرها. (1)
ولهذا كانت قاعدة ( العادة محكمة ) بناءً على ما جاء عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ موقوفاً : (( ما رآه المسلون حسناً فهو عند الله حسن ))(2) .
فإذا كانت العادة والعرف لهما اعتبار في الشرع ، مع كثرة ما يطرأ عليهما من تغير وتبديل بحسب الأزمنة والأمكنة وتطور أحوال الناس ، فإن على العلماء مراعاة ذلك التغير بقدر الإمكان . وخصوصاً ما كان من قبيل الفتيا في الأمور الواقعة أو المستجدة لعظم شأنها وسعة انتشارها .
يقول الإمام القرافي ـ رحمه الله ـ في ذلك :((إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين ، بل كل ما هو في الشريعة
يتبع العوائد : يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة ))(3)،
وزاد أيضاً ـ رحمه الله ـ : (( ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفتٍ لا يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضع الفتيا : أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده ، وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا ؟ وإن كان اللفظ عرفياً فهل عُرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا ؟ وهذا أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء ، وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواءً أن حكمهما ليس سواء)) (4).
وقد قرر أيضاً هذا المعنى في موضع آخر بقوله : (( وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد العرف اعتبره ، ومهما سقط أسقطه ، ولا تجمد على المسطور في الكتب طوال عمرك .. والجمود على المنقولات أبداً اختلاف في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين ))(5).
وقد حرر الإمام ابن القيم فصلاً مطولاً ـ كما بيناه سابقاً ـ في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وسرد الكثير من الأمثلة والشواهد .(6)
ثم قال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر مؤكداً على أهمية مراعاة العرف في الفتوى :-
(( وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل فيغر الناس ، ويكذب على الله ورسوله ويغير دينه ويحرم ما لم يحرمه الله، ويوجب ما لم يوجبه الله والله المستعان ))(7).
ولأهمية هذا الضابط وأنه قد يكون مزلة لبعض أهل الفتيا والنظر ؛ اشترط الفقهاء والأصوليون شرائط يكون فيها العرف معتبراً ، صيانة لأحكام الشريعة من التبديل والاضطراب ، وهي أربعة شروط أذكرها مختصرة :-
1-أن يكون العرف مطرداً أو غالباً .
2-أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرفات قائماً عند إنشائها .
3-أن لا يعارض العرف تصريح بخلافه .
4-أن لا يعارض العرف نص شرعي بحيث يكون العمل بالعرف تعطيلاً له.(1)
ويظهر مما سبق ذكره ، أن مراعاة العوائد والأعراف المتعلقة بالأشخاص والمجتمعات عند النظر والاجتهاد أمر مهم وطلب ضروري لا بد منه لكل مجتهد ومفتي ولعل مراعاة ذلك في عصرنا الحاضر آكد لتشعب الناس في البلاد الواسعة المختلفة الظروف والعوائد وتيسر وسائل الاتصال الحديثة للانتقال إلى مكان المفتي أو سماعه ؛ مما يجب عليه أن لا يطلق الجواب حتى يعرف أعراف السائلين وما يليق بهم من أحكام الشرع، وليحذر من إطلاق الفتاوى معممة دون تخصيص ما يحتاج منها إلى تخصيص بسبب ظروف السائل وعوائده ، وخاصة إذا كانت شريحة المتلقي أو المستمع لهذه الفتوى واسعة الانتشار في أكثر من بلد كما هو الحاصل في برامج الفتيا في الإذاعة والتلفاز .(2)
والمتأمل في واقع فتاوى المرأة في بلادنا يلحظ اختلاط الأعراف والعادات بالشرع , حتى أصبح العرف مقيداً ومخصصاً لكثير من النصوص الشرعية , و من المقرر عند أهل العلم والأصول أنهم لم يعتبروا عرفاً يستشهدون به ويحتجون له إلا عمل أهل المدينة , ولا يخفى فضل المتقدمين منهم لصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفتهم للتأويل ومشاهدتهم للتنزيل , ومع ذلك فالمتأخرين منهم لا حجة في عملهم على مذهب الأحناف والشافعية والحنابلة وهو قول المحققين من أصحاب مالك(3). فكيف يجعل عمل بعض المناطق والبيئات حجة على الناس وعياراً على السنة وفهم دلالاتها .
وبعد تقرير هذه القاعدة فإن الكثير من قضايا المرأة المتعلقة بعملها أو بزينتها أو سفرها لوحدها من غير محرم وقد أمنت الفتنة أو بمشاركتها للرجال في ميادين التجارة وحضور مجالس العلم كل هذه الامثلة وغيرها تخضع لهذه القاعدة واعتباراتها المتغيرة زماناً أو مكاناً أو حالاً.
لذلك يجب على الفقيه معاودة النظر في هذه القضايا المبنية على جلب أعظم المصالح ودرء أعظم المفاسد، وعالمنا المعاصر قد تغيّر بشكل كبير قد تكون المصلحة الماضية مفسدة في الحاضر وكذا العكس. والجمود والانفلاق هو البقاء على المفتى به ولو تغير مناطة وتبدل مدركه الفقهي.
من المسائل الشائكة في قضايا المرأة : الخلوة بالأجنبية:
وقد ذكرت هذه المسألة والتي تليها كونها من القضايا الملحّة في عمل المرأة ومشاركتها، ومنها أيضاً نوع إفراط وتفريط في التعامل معها وتنزيلها في واقعنا المعاصر.
فالمراد بالخلوة المنهي عنها أن تكون المرأة مع الرجل في مكان يأمنان فيه من دخول ثالث، قال أبو حنيفة: أكره أن يستأجر الرجل امرأة حرة يستخدمها ويخلو بها، لأن الخلوة بالمرأة الأجنبية معصية والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لايخلون رجل بأمرأة إلا مع ذي محرم"(1)وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.(2) ومما يُباح في الخلوة، انفراد رجل بامرأة في وجود الناس، بحيث لا تحتجب أشخاصهما عنهم، ويسُمع كلامهما ن الناس. فقد جاء في صحيح البخاري: "جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخلا بها" وعنوّن ابن حجر لهذا الحديث بباب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس، وعقب بقوله" لا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم، بل بحيث لا يسمعون كلامهما إذا كان بما يخافت به كالشيء الذي تستحي المرأة من ذكره بين الناس. وقد تكون الخلوة بالأجنبية واجبة في حال الضرورة، كمن وجد امرأة أجنبية منقطعة في برية، ويخاف عليها الهلاك لو تركت".
قال ابن مفلح: " فصل : ومن عرف بالفسق منع من الخلوة بامرأة أجنبية لما يحصل فيه من الريبة", وقد قال النبي : صلى الله عليه وسلم "لا يخلون رجل وامرأة , فإن الشيطان ثالثهما".
وقال القاضي في الأحكام السلطانية فيما يتعلق بالمحتسب :-
وإذا رأى وقوف رجل مع امرأة في طريق سالك لم تظهر منهما أمارات الريب لم يتعرض عليهما بزجر ولا إنكار, وإن كان الوقوف في طريق خال فخلوا بمكان ريبة فينكرها , ولا يعجل في التأديب عليهما حذرا من أن تكون ذات محرم وليقل : إن كانت ذات محرم فصنها عن موقف الريب, وإن كانت أجنبية فاحذر من خلوة تؤديك إلى معصية الله عز وجل , وليكن زجره بحسب الأمارات, وإذا رأى المحتسب من هذه الأمارات ما ينكرها تأنى وفحص وراعى شواهد الحال , ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار".(3)
الخلوة بالأجنبية مع وجود غيرها معها:
اختلف الفقهاء في حكم خلوة الرجل بالأجنبية مع وجو أكثر من واحدة، وكذا خلوة عدد من الرجال بامرأة، ففصل الشافعية الحكم في ذلك، فقال إمام الحرمين: كما يحرم على الرجل أن يخلو بامرأة واحدة، كذلك يحرم عليه أن يخلو بنسوة، ولو خلا رجل بنسوة، وهو محرم لإحداهن جاز، وكذلك إذا خلت امرأة برجال، وأحدهم محرم لها جاز، ولو خلا عشرون رجلا بعشرين امرأة، وإحداهن محرم لأحدهم جاز، قال : وقد نص الشافعي على أنه لا يجوز للرجل أن يصلي بنساء منفردات، إلا أن تكون إحداهن محرما له.
وحكى صاحب العدة عن القفال مثل الذي ذكره إمام الحرمين فيه نص الشافعي في تحريم خلوة الرجل بنسوة منفردا بهن.
وقد ذكر صاحب المجموع بعد إيراد الأقوال السابقة أن المشهور جواز خلوة رجل بنسوة لا محرم له فيهن، لعدم المفسدة غالباً، لأن النساء يستحيين من بعضهن بعضا في ذلك.(1)
وفي حاشية الجمل : يجوز خلوة رجل بامرأتين ثقتين يحتشمهما وهو المعتمد. أما خلوة رجال بامرأة، فإن حالت العادة دون تواطئهم على وقوع فاحشة بها، كانت خلوة جائزة، وإلا فلا.(2) وفي المجموع: إن خلا رجلان أو رجال بامرأة فالمشهور تحريمه ، لأنه قد يقع اتفاق رجال على فاحشة بامرأة، وقيل: إن كانوا ممن تبعد مواطأتهم على الفاحشة جاز.(3)
أما الحنفية فتنتفي عندهم حرمة الخلوة بوجود امرأة ثقة ، وهذا يفيد جواز الخلوة بأكثر من امرأة، فقد ذكر ابن عابدين، أن الخلوة المحرمة بالأجنبية تنتفي بالحائل، وبوجود محرم للرجل معهما، أو امرأة ثقة قادرة.(4)
وعند المالكية تكره صلاة رجل بين نساء أي بين صفوف النساء، وكذا محاذاته لهن بأن تكون امرأة عن يمينه وأخرى عن يساره، ويقال مثل ذلك في امرأة بين رجال ، وظاهره، وإن كن محارم.(5)
وعند الحنابلة تحرم خلوة الرجل مع عدد من النساء أو العكس كأن يخلو عدد من الرجال بامرأة.(6)
يتبين مما سبق أن للفقهاء قولان في خلوة المرأة بالرجال أو الرجل بالنساء : إلى ثلاثة أقوال :
القول الأول : وهو قول الحنفية والمعتمد عند الشافعية وهو جواز الخلوة بإنتقاء الشبه إما بوجود الثقة أو المحرم معهم إو إحالة العادة تواطئهم على الطاعة .
القول الثاني : وهو قول المالكية بكرهة الخلوة بينهم.
القول الثالث: هو قول الحنابلة بحرمة الخلوة بينهم.
ولعل الراجح هو الكراهة التي تنتفى بالحاجة يؤيد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان" وكذلك ما جاء في صحيح البخاري: "أن امرأة من الأنصار جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخلا بها" . وقد ثبت في الصحيح: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم، فقيل له أي سـئل في ذلك فقال: "أرحمها، قتل أخوها معي ".يعني حرام بن ملحان.. وكان قد قتل يوم بئر معونة.
أحكام الاختلاط :
يقول الدكتور يوسف القرضاوي : "دخلت معجمنا الحديث كلمات أصبح لها دلالات لم تكن لها من قبل، ومن ذلك كلمة "الاختلاط" بين الرجل و المرأة، فقد كانت ألمرأة المسلمة في عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين تلقى الرجل وكان الرجل يلقى المرأة في مناسبات مختلفة دينية ودنيوية ولم يكن ذلك ممنوعاً بإطلاق بل كان مشروعاً إذا وجدت أسبابه وتوافرت ضوابطه ولم يكونوا يسمون ذلك "اختلاطاً" ثم شاعت هذه الكلمة في العصر الحديث ولا أدري متى بدأ استعمالها بما لها من إيحاء ينفر منه حس المسلم والمسلمة ، لأن خلط شيء بشيء يعني إذابته فيه كخلط الملح أو السكر بالماء. المهم أن نؤكد هنا أن ليس كل اختلاط ممنوعاً كما يتُصورّ ذلك ويصُوّره دعاة التشديد والتضييق، وليس كل اختلاط مشروعاً، كما يرّوج لذلك دعاة التبعية والتغريب".(1)
ولتبين المسألة فإنه حكم اختلاط بين الرجال والنساء يختلف بحسب موافقته لقواعد الشريعة أو عدم موافقته، فيحرم الاختلاط إذا كان فيه :
أ) الخلوة بالأجنبية، والنظر بشهوة إليها.
ب) تبذل المرأة وعدم احتشامها.
ج) عبث ولهو وملامسة للأبدان كالاختلاط في الأفراح والأعياد مما يفعل في بعض البلدان، فالاختلاط الذي يكون فيه مثل هذه الأمور لا يجوز، لمخالفته لقواعد الشريعة. قال تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن وقال تعالى عن النساء: ولا يبدين زينتهن . وقال : وإذ سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان" وقال صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر" يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه". وكذلك اتفق الفقهاء على حرمة لمس الأجنبية، إلا إذا كانت عجوزا لا تشتهي فلا بأس بالمصافحة.
وبما أن الحظر هو الأصل في اختلاط النساء بالرجال، إلا أنه تستثنى بعض الحالات التي يجوز فيها للضرورة الشرعية، أو للحاجة الشرعية ، أو للمصلحة الشرعية كالذهاب للمحاكم للشهادة أو الأسواق للحسبة أو للشراء والبيع والمستشفيات للعلاج أو العيادة أو الجامعات للتعلّم أو التدريس مع ملاحظة ترتيب المصلحة الأعظم من خروجها وعدم وجود المفسدة التي تعظم في شأنها أو تعظم في مآلاتها بحيث تضعف المصلحة مع وجود الضرر المترتب على خروجها.
ثانيا : مقترح لبرامج عملية تتواكب مع مستقبل المرأة :
لعدة سنوات والطابع الغالب على ملف المرأة عند الإسلاميين هو المحافظة على الهويّة والدفاع عن حجابها وحشمتها والردّ على الشبهات التي تثار ضدها واتهام التيارات المنافسة الأخرى بمحاولة تحريرها. ومع أهمية هذا الطرح إلا أنه شكل الغالب من الخطاب الإسلامي للمرأة من غير سعي للخروج من هذا الفلك الخطابي والتحذيري إلى ميدان الخطط والعمل المبرمج واستشراق المستقبل نحو آفاق جديدة للعمل والإصلاح ولعلي من خلال هذه المقاربة أن أشير إلى أهم المقترحات في هذا الصدد أذكر منها على سبيل المثال:
1- الحاجة الماسة لبناء الوعي لدى المرأة المسلمة عموماً والعاملات في ميدان الدعوة والإصلاح خصوصاً. فالواقع يشير أن هذا البناء لم يظهر بصورة كافية تستطيع من خلالها النخب النسائية التفاعل مع قضاياهن بالمنهجّية العلمية المناسبة لطبيعة المرحلة.
فالوعي والإدراك بالواقع الفكري والمستجدات النازلة بالمجتمع النسائي مازال يعتوره القصور والانكفاء واحياناً الاكتفاء بالرجال عن النزول بأنفسهن في هذا الميدان .
كذلك برزت أهم ملامح ضعف الوعي لدى النخب النسائية عدم قدرتهن للمنازلة والمناقشة العلمية والعقلية والاقتصادية والسياسية والحضارية لقضاياهن فضلاً أنهن لا يملكن أدوات القيادة للحراك الثقافي داخل مجتمعهن النسائي، ومن خلال متابعتي للتداعيات الراهنة في قضايا المرأة لم أجد مشروعاً حقيقياً يأتي لتصحيح الوضع القائم ويقدمّ مبادرات واقعية مع استشراف المستقبل المتوقع لقضايا المتنوعة.
لذا كان من الجدير الاهتمام بإقامة برامج تعمقّ هذا الوعي وتبنيه في أوساط النخب العاملة من خلال الندوات والمحاضرات وبرامج الحوارات المفتوحة مع التيارات المتنوعة داخل المجتمع مع أهمية العمل الجاد والدؤوب في صياغة مشروع متكامل ومرن يحقق مطالبها ويفي بحقوقها.
2- الحاجة إلى تقوية العمل النسائي الخاص بهن والمفعّل من قبلهن دون الحاجة إلى إدارة الرجال المباشرة لكل تفصيلات عملهن.
مع التركيز على بناء الشخصية المتكاملة والشاملة روحياً وفكرياًَ وسلوكياً واجتماعياً ، والتجارب الإقليمية تؤكد أن تولي المرأة شؤونها وإدراكها بنفسها حجم الحاجة والأهمية قد يقودهن ذاتياً إلى دور مميز في المستقبل القريب بإذن الله.
3- تنمية الدور الاجتماعي للمرأة فهو الدور الذي تبرز فيه المرأة فيه المرأة بشكل كبير وتنجح في إدارته وهو من أهم مرتكزات أمن واستقرار المجتمع . لذي ينبغي التأكيد على ما يلي:
أ) فتح مؤسسات متخصصة للمرأة تقوم بالدفاع عن حقوقهن الشرعية وتحمي الأسرة من العنف وآثاره السلبية.
ب) فتح مؤسسات اجتماعية لتطوير وتنمية المهارات النسائية المتنوعة في مجالات الحرف والمهن والزينة والرسم والإدارة وأدوات الاتصال المعاصرة وغيرها.
ج) إقامة نوادي رياضية للنساء تمارس فيها المرأة الرياضات المناسبة لها كالمشي والجري والسباحة والعلاج الطبيعي والألعاب الخفيفة كالتنس وغيرها مع الاهتمام بتنميتها دينياً وثقافياً وحمايتها من أسباب الانحراف والاختلال السلوكي والفكري.
د) فتح أقسام نسائية في جميع المؤسسات الخيرية ذات النفع العام.
هـ) تطوير دور القرآن الكريم وحلقة التحفيظ لأن تستوعب أعداد أكبر غير الراغبات بالحفظ فقط، وتنويع البرامج المحفزّة لقبول أعداد أكبر من الفتيات ومن شرائح مختلفة.
و) إلزام الجامعات والكليات لاعتماد برنامج العمل التطوعي في مناهج الدراسة.
4- فتح مجالات عمل للمرأة غير مهنة التعليم والطب من خلال التركيز على مهن محدّدة ومنضبطه تتناسب مع وضع المرأة الاجتماعي وتحقق المصلحة للوطن ولا تخرج عن ثوابت ومقاصد الشرع. ومن تلك الأعمال مجال الاستشارات الاجتماعية في المحاكم والمدارس ودور الرعاية وغيرها وفتح مجال التوظيف في وزارة الشؤون الإسلامية وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والعمل في مجالات البيع لمحلات الملابس والمراكز النسائية. كما ينبغي التركيز على مجالات (العمل عن بُعد )والتركيز على نجاحها في كثير من الشركات والمؤسسات الحكومية في عدد من دول العالم، وتقديم برامج عملية وميدانية تؤكد نجاح هذه التجربة في مجتمعنا السعودي.
5- العناية بمجال الاستثمار التجاري والمالي لدى المرأة ، ولا يمكن أن يهُمل هذا الأمر مع أهمية وسعة الشريحة المحتاجة إلى برامج ومبادرات سريعة لحفظ أموالهن واستثمارها بالطريقة المربحة.
ويمكن ذلك من خلال تقوية الصلات بين سيدات الأعمال بعمل نقابة أو رابطة أو هيئة مالية تجمعهن وترضي طموحهن وتحقق لهن المنزلية والكيفية الاجتماعية التي يرغبن بها ، ويمكن تطوير عمل هذه الهيئة المالية بتنمية قدراتهن الإدارية والتجارية والقانونية.
6- تهيئة عدد من النساء ذوات الكفاءة والديانة لشغل مناصب ريادية قادمة في بعض المؤسسات الحكومية كالتربية والتعليم والشؤون الاجتماعية والشؤون الخارجية وغيرها مما يؤكد الواقع أن هناك تسارع نحو تعيينهن في مناصب قيادية لبعض تلك الجهات الحكومية وغيرها. فيمكن تهيئة من تعتُبر الأنسب والأصلح لهذه المواقع وعدم الغفلة عن ذلك بحجة عدم مناسبة العمل لطبيعة بعض الإسلامّيات فالأمر سيأتي والمجتمع سيقبله والمؤسسة الشرعية ستوافق على ذلك. والإعداد المسبق والتهيئة اللازمة مهمة لهذه المرحلة القادمة. والمجتمعات العربية القريبة التي حاولت الانكفاء عن هذا الدور أدى إلى تولي غير الصالحات لهذه المناصب وضاعف من حجم المفاسد والسلبيات، والقاعدة الفقهية تنص على اختيار أهون الشرين وأقل الضررين.
7- تقوية العمل الإعلامي النسائي. وتدريب بعض المؤهلات لذلك وتفعيل دورهن في إدارة وتحرير مجلاتهن والعمل على التأثير في الصحافة المحلية والعمل الإذاعي والمشاركة في البرامج التلفزيونية بكامل حجابها دون الامتناع عن ذلك مع إعداد كوادر نسائية عالية الثقافة للتعامل مع الأعلام الخارجي وحضور المؤتمرات الدولية.
8- كما ينبغي تفعيل دور المواقع النسائية على الشبكة العالمية وعمل رابطة تجمعهن لتحقيق التطور اللازم وتبادل الخبرات التي تجددّ العمل وتستوعب الاحتياجات الراهنة. فالشريحة المتعاملة مع مواقع الانترنت ومنتدياته من الفتيات شريحة كبيرة وتزداد مع الأيام والاهتمام بهذا المجال دعوياً أصبح أمراً ملحاً لا يمكن الغفلة عنه.
9- ضرورة عمل مسودات للأنظمة المقدمة في الشأن النسوي بتقديم مسودة نظام يراعي حقوق المرأة ويوازن بين واجباتها في المنزل والعمل والمجتمع ويحقق لها المصلحة الحقيقة من مساهماتها المتنوعة لذا أقترح أن تكون هناك لجان قانونية تعيد النظر في قضايا ومواد الأنظمة المتعلقة بالمرأة في نظام المرافعات والخدمة المدنية والتعليم والتربية والصحة والعمل وغيرها من الأنظمة ذات العلاقة.
والله الموفق...