الحكومات والحركات الإسلامية في مرحلة( ما بعد القطيعة )
زوار : 1301  -   13/02/2008
 
 

ظلت العلاقة المأزومة بين الكثير من الحكومات العربية والحركات الإسلامية عقودا طويلة من الزمن تعاني من التوتر والاتهام المتبادل والقطيعة شبه التامة, ولا تخلو أيامها من ويلات الاغتيالات والثورات في مقابل سجون الحكومة التي مُلِئت بالمعتقلين بسبب انتماؤهم للمعارضة الإسلامية  . وخيمت هذه الحالة من القطيعة على صورة العلاقة بين الطرفين المتضادين دون أن تحمل المتغيرات العالمية أي بوادر انفراج يمكن أن تعيد حالة السلم السياسي  والاجتماعي إلى الطرفين , وأمام هذه الإشكالية بإفرازاتها السلبية على الأمن والتنمية , يمكن القول أن المراجعة وتقويم الفترة الماضية لم ينل حظه من الاهتمام والجدية ما يجعل المصلحة الوطنية ومستقبل الأجيال الواعدة نصب أعين المؤثِّرين من الطرفين , ولعل هناك بريق أملٍ في جيلٍ بدأ يتسيِّد على مجريات الأمور الراهنة ولا يستحضر صراعات لم يشهدها تاريخه في تحويل هذه القطيعة إلى تنوعات مدنية وتبادل ادوارٍ عملية ؛ تحقق التعاون في المشترك العام من المصالح والمكاسب الوطنية . والمرحلة القادمة لا تقبل الانتظار الطويل في تذويب الخلافات وتحتاج إلى قدرةٍ عالية في القفز على مناوشات الحرب الباردة بين أطراف المجتمع الواحد , وهذا يتطلب وعيا بأولويات المواجهة وصدقا في التعامل مع المصالح الوطنية وصبرا على مناكفات ونزق صنّاع العداوات ومرتزقة الفتن الأهلية .
ومن المقرر لدى الجميع ؛ أن توتر الوضع السياسي والأمني في أي بلد يعتبر من أكبر معوقات التنمية والاستقرار ولا يمكن تحقق مصالح خاصة أو عامة في أجواء المواجهة والتنازع , وحتى تهميش فصيل صغير من المعارضة فإنما هو أشبه بتجاهل الألم في طرف البدن والذي مهما صغر فإنه مصدر تنغيصٍ لكل أجزاء البدن المختلفة ,كما أن الاهتمام والتفاعل مع كل معارضة تهدف لإلغاء الأخر دون مراعاة تنوعات ومشاريع أخرى ؛ قد يؤدي إلى الانشغال التام عن مصالح الوطن العليا والالتفات إلى صراخ المطالب الشخصية والحزبية ؛ مما يعيق قافلة النهضة عن المسير , ولكن من المهم أيضا أن يكون الاعتبار الحقيقي هو للفصائل ذات التمثيل الحقيقي للشعب وأصحاب المعالجات السلمية للإصلاح والذين يملكون برنامجا تنمويا حقيقيا يتلمسه الشعب ويؤمن بجدواه الجميع , وتهميش هذا الطرف الهام من معادلة الإصلاح الوطني قد تكرر في تجارب طويلة ومتعددة داخل كثير من البلاد الإسلامية ؛كحزب الرفاة السابق في تركيا ,والإخوان في مصر, والنهضة في تونس , والجماعة الإسلامية في باكستان , والإنقاذ في الجزائر إلى غيرها من الحركات الإسلامية الأخرى. ولم يحقق هذا التهميش والإبعاد سوى تحزيب المجتمع وتكريس الدولة جهدها ومالها في تحطيم المقابل دون أي مكاسب حقيقية ؛بل على العكس أحيانا قد تكون نتائج الاستطلاعات أو الانتخابات تؤكد أن الطرف المنتصر هو من كانت الحكومة تظنه قد تلاشى من التأثير داخل المجتمع . فالانفتاح العالمي وغلبة اقتصاديات المال والإعمال أعاد من جديد رسم خرائط الأعداء والأصدقاء , وأصبحت الدول ذات الأحلاف الاقتصادية هي من أقوى الدول تعاونا وتلاحما من الدول ذات التوجهات السياسية الواحدة , لذلك خرج هذا الإطار التنموي كأقوى إطار يمكن أن تلتقي عليه أهداف الفرقاء في الوطن الواحد , وأنموذج الاتحاد الأوربي و آسيان وايباك ؛ مازال حاضر النجاح في مقابل تواضع الانجاز المطلوب من الاتحاد المغاربي ومجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية وغيرها, كما أن نجاح التجربة الهندية والصينية رغم كثرة التنوعات والديانات واللغات في دمج الجميع نحو هذه الغاية محفز قوي آخر لإعادة النظر في القواسم المشتركة بين أجنحة المجتمع الواحد  .
أما الإشكالية الأخرى فتكمن في تعاطي بعض الإسلاميين للعمل السياسي من خلال مظاهر عدة ؛ كازدواجية الخطاب الجماهيري التعبوي مع الخطاب السياسي المصلحي , و المثالية المفرطة في غايات الدولة الإسلامية مقابل تناسي الواقع الراهن والأنظمة الأممية والأحلاف الدولية وسيادة القطب الأوحد في العالم , كما تظهر إفرازات هذه الإشكالية في تداخل الديني والعقدي أثناء الموالاة أو المعادة ؛ ففي حين تخرج فتوى التكفير للاشتراكية والعلمانية تظهر تحالفات قوية معهم أثناء الانتخابات أو داخل البرلمانات دون تأصيلٍ شرعي وفقهٍ واقعي يوضح هذا التغاير في المواقف والقرارات , كما أن الخيار العسكري لدى بعض الحركات الجهادية أظهر فشله في عدة جوانب من خياره الكارثي في المواجهة المسلحة  ؛كفشله في تقدير قوة الحكومات التي مهما ضعفت فهي أقوى من أي تيار جهادي مهما بلغ من القوة والتنظيم , كما فشلوا أيضا في بلورة الغاية والهدف من المواجهة مع الحكومات وخلطوا بين الجهاد كوسيلة وبينه كغاية , بالإضافة إلى عدم وجود مشروع أو برنامج حقيقي للإصلاح والتنمية , والناظر في الحركات الجهادية الراهنة كالقاعدة على سبيل المثال يرى بوضوح النزعة الشديدة نحو التطرف الفكري والغلو الديني الذي يستحيل من حيث السنن والنواميس أن تنتصر بالعدل وأن تحكم بالوسطية وأن تلقى القبول من أطياف المجتمع ؛ فالعدل والوسط والقبول؛ هي شروط النجاة والنصر في أي مشروع يهدف لبناء الحياة والمجتمع . فهذه الإشكاليات وغيرها قد تظهر في الممارسة وقد تكون في أساس التنظير والبناء الفكري لدى قطاعات واسعة من الإسلاميين  وهي تحتاج إلى مراجعة وتقويم في عدة مناحي : منها ؛ تقويم التراث الإسلامي السياسي وعدم إسقاطه بالنص على واقع مختلف كليا عنه ,وفي تجربة شيخ الإسلام ابن تيمية قبل ثمانية قرون في نقد شروط الإمامة وواجبات الولاية ؛خطوة من الريادة والإبداع يجب أن تستمر وتُستحضر خلالها ثوابت السياسة الشرعية لا متغيراتها التي أملتها الظروف الزمانية والمكانية والحالية في وقت مضى , كما أن تقسيم المجتمع إلى فئات متباينة في الدين والانتماء ,والنظر إلى المخالفين سياسيا كأنهم خارج  إطار الدين والعقيدة كلها مفاهيم تحتاج إلى تمييز وتقويم وورع وإخلاص , والخطوة الأهم في مرحلة المراجعة والتقويم هي واجب المرجعيات الفقهية ؛ أفرادا و مؤسسات في تطوير مفاهيم  المناصحة لولاة الأمر, والإنكار السلمي لأخطاء الدولة دون الاستسلام والانكفاء خوفا من وهم الخروج والثورة , أو التمادي والمعاندة التي قد تقود إلى مفاسد الثورة والاقتتال الداخلي , والتجارب العالمية من حولنا فيها من المفيد النافع لواقعنا والمتفِق مع شريعتنا الغرّاء ما ينبغي أن نستفيد منه في الحراك السياسي الايجابي لمجتمعاتنا ,مثل؛ المشاركات البرلمانية, والديمقراطيات الشورية ,ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها من تطبيقات ايجابية ,كانت مستندا شرعيا لدولة الخلافة الأولى عندما قامت الدواوين واختطت المدن ووزعت الغنائم والفرص على الجنود والمرابطين وبيوت مال المسلمين .
إن مرحلة (ما بعد القطيعة ) التي يمر بها العالم اليوم هي نقلة نوعية في التاريخ الانساني , قد تختصر العمر الحضاري في لحظات , وتعجّل بالنهضة التي توقفت منذ أمد بعيد , ويكفي أنها أخرجت العديد من الرؤوس المدفونة في وحل الخصومات والتحزبات إلى مدّ النظر في الأفق البعيد الذي يحمل الأمل للشعوب من جديد .

 

 

الإسم  
الدولة  
البريد الإلكتروني   
تقييم الموضوع  
التعليق  
رمز التفعيل


 
 
 

د. سارة بنت عبدالمحسن