هناك ارتباط تبادلي بين مفهومي الصناعة والفقه , فدلالات اللفظين تجمع بين حقيقة الإتقان المهاري والتصميم المعرفي والإنجاز الواقعي في خدمة الإنسان , فصناعة الفقه من أهم أدوات العمل على عمارة الأرض والاستفادة من خيراتها واستغلال نواميسها وقوانينها في البحث عن الجديد من المخترعات والمكتشفات ؛ فالفقه الذي لا يدل على طاعة أو ينهى عن معصية , أو ينظّم سلوكا و يعالج أزمة , أو يحفّز على مصلحة مشتركة , فهو فقه خامد لا يحمل جذوة التغيير السنني الذي وضعه الله في الحياة .
ومن جميل ما قرأت في بيان العلاقة الوثيقة بين الصناعة والفقه ما ذكره جملة من الفقهاء الأصوليين , منهم الإمام السبكي في (الإبهاج في شرح المنهاج) الذي عدّ الصناعة مصطلح مرادف للعلم , وكذا الإمام ابن رشد الحفيد في كتابه المختصر (الضروري في علم الأصول ) عندما تكلّم عن صناعة الفقه والأصول ؛ و رأى أنها تحَصُل من تعاطي القوانيين والأحوال التي تسدّد الذهن نحو الصواب ,كالعلم بالدلائل وأقسامها , وبأي حالٍ تكون دلائل وبأيها لا, وفي أي المواضع يُحمل الشاهد على الغائب وفي أيها لا, ثم قال : ( وهذه فلنسمّها سبارا وقانونا ،فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس في مالا يؤمن أن يغلط فيه ) .
والإمام ابن خلدون في مقدمته توسّع في مفاهيم الصناعة وذكر مجالاتها , وأكد على ( أن الصناعة هي مَلَكة في أمر عملي فكري , و بكونه عمليا هو جسماني محسوس, و الأحوال الجسمانية المحسوسة ؛ نقلها بالمباشرة أوعب لها و أكمل ؛لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة ,و المَلَكَة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل و تكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته ,و على نسبة الأصل تكون المَلَكَة و نقل المعاينة أوعب و أتم من نقل الخبر و العلم , فالمَلَكَة الحاصلة عن الخبر و على قدر جودة التعليم و مَلَكَة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة ) . فالإمام ابن خلدون يمرّر قوانيين الصناعة على الفكر , و بحسب المدخلات الجيدة والصحيحة يكون المُخرج كذلك .
وما سبق ذكره من استعمالٍ لمفهوم الصناعة وإدخاله في الفقه , يفتح لنا أبوابا من المنتجات التي يدخّرها الفقه الإسلامي , وهذا يحتاج إلى فقهاءٍ مهرة يحسنون الصناعة ويحولون النصوص إلى منتجات ومبتكرات تعيد للفقه دوره الحيوي في خدمة الإنسان والرقي بمجتمعه .
وللتدليل على دعوى هذا الدور الفقهي في نهضة المجتمع وتطوير الحياة الإنسانية ؛ تلك الإسهامات المباركة التي حولت نصوص الوحي المحدودة في ألفاظها والواسعة في دلالاتها إلى تشريعات كثيرة ودقيقة تستوعب تفاصيل حياة الناس , وتنظّم شؤونهم المالية والاجتماعية والسياسية ؛على قدرٍ من تحقيق المصالح وتكميلها , ومرونة واقعية تتأقلم مع المتغيرات الزمانية والمكانية , ويكفي أن نتناول مصنفا فقهيا , لنجد فيه آلاف الأحكام والتشريعات السديدة , أضف إلى هذا أن الصناعة الفقهية نجحت في رسم منهج أصولي يعتمد على الاستنباط العقلي وفهم الدلالات اللغوية والتنزيل الواقعي للنصوص , وهذا المنهج يعتبر ثورة تقدمية في الصناعة الفقهية حتى على مستوى الفكر الإسلامي بصورة عامة ؛لجمعه بين المناهج العقلانية والجدلية والإثبات التجريبي على الواقع المتغير!! .
كما أن هناك دور تفاعلي قام به الفقه الإسلامي مع معطيات الطبيعة ومكنوناتها المكنوزة ؛ ربما لم يظهر بوضوح في المصنفات الفقهية ولكنه أنتج محاولات رائدة في علوم الجبر والهندسة والطب والفلك والطيران وغيرها , وعلى سبيل المثال لا الحصر ؛ أذكر بعض الإسهامات العلمية التي حققها فقهاؤنا الأوائل من خلال تطوير الأحكام الفقهية إلى مشاريع أكبر ؛أسهمت بالتالي في كشف أعظم المخترعات العلمية؛ فالإمام البتَّاني أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان (ت 317 هـ)، قد أنشأ مرصدًا فلكيَّا عُرِف باسمه ,وقد كان لأعماله جانب نظري يتمثل في قراءة مؤلفات الفلكي اليوناني بطليموس وانتقائها بطريقة علمية، وَوَضع كتابًا في حركة النجوم وعدّدها، وقد ظل يُدرَّس في أوربا حتى عصر النهضة العلمية في أوربا، وله أبحاث تجريبية عملية بلغت منتهى الدقة والارتقاء والتقدم العلمي من واقع مشاهداته الفلكية، وحدد أبعد نقطة بين الشمس والأرض، وحسب مواعيد كسوف الشمس وخسوف القمر، واتبع في ذلك منهجًا شبيهًا بالمنهج العلمي الحديث، مما جعل الأوربيين يعدُّونه من أعظم علماء الفلك في التاريخ.
وهذا أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى النقاش الزُّرْقَالي الذي عاش في القرن الرابع الهجري، ونشأ في طليطلة بالأندلس، و أنشأ فيها مراصد فلكية عديدة، واخترع جهاز الإسطرلاب الفلكي لقياس اتجاهات الرياح وسرعتها وتحديد الليل والنهار، مما أدهش علماء أوربا، وقد استفاد من مؤلفاته العالم الأوربي الفلكي كوبرنيكس الذي حرص على الاستشهاد بآراء أبي إسحاق في جميع مؤلفاته. والفرغالي الذي ألف كتابًا ظل مرجعًا اعتمدت عليه أوربا وغربي آسيا سبعمائة عام. أما في
علوم الرياضيات فيعتبر العلامة محمد بن موسى الخوارزمي (ت 232 هـ) صاحب الفضل الأكبر في معرفة خانات الآحاد والعشرات والمئات، وفي معرفة الزوجي من الفردي في الأعداد، وفي معرفة عمليات الكسور العشرية، واستخدامها في تحديد النسبة بين محيط الدائرة، وقطرها مما لم تعرفه أوربا قبله, ولم يكن الخوارزمي وحده هو البارز في هذا المجال، بل كان هناك علماء كثيرون وضعوا مؤلفات في الحساب والجبر مثل: أبي كامل شجاع بن أسلم المصري، ووسنان بن الفتح الحرَّاني، والكندي، ومحمد بن الحسن الكرخي صاحب كتاب الكافي في الحساب ، فأضافوا إليها الكثير، وابتكروا نظريات هندسية جديدة، فجددوا وأضافوا في المساحات والأحجام، وتحليل المسائل الهندسية، وتقسيم الزوايا، ومحيط الدائرة وكيفية إيجاد نسبة محيط الدائرة إلى قطرها مما سهل لهم أمورًا كثيرة في فنون العمارة والزخارف الإسلامية، وقد كان في مقدمة علماء المسلمين في الهندسة الحسن بن الهيثم وأبو جعفر الخازن، وغيرهم كثير .
وهنا أتساءل كيف حصل الانفصام النكد بين علوم العبادة والعمارة ؟!؛ بل والشقّة الكبيرة التي كونت أجيالا من الفقهاء المتأخرين الذين يرفضون ويحاربون تلك العلوم الطبيعية !!, بينما كنا نقرأ في تراجم أكثر الفقهاء الأوائل كالغزالي والجويني و الرازي والقرافي وابن رشد أنهم كانوا يتقنون الطب والفلك والهندسة ويزاوجون بينها وبين علوم التفسير والحديث والفقه توظيفا لمقاصد الشرع في تعبيد الناس لله عز وجل . والحقيقة أن حالة الفقه المعاصرة هي حالة مرضية قد تقلّصت دوائره المؤثرة حتى أصبح فقها لا يمتّ لواقعنا بصلة , ولولا ضرورة البحث في مشكلات الطب والاقتصاد التي فرضت نفسها على فقهائنا المعاصرين وجعلت قيم الفقه على محك الصلاحية والمصداقية لما تحرك الفقهاء ولما ولدت المجامع الفقهية ، وأعتقد أن تلك الحركة الفقهية المُعالِجة للنوازل الجديدة جاء أكثرها كردود فعلٍ للظروف والتساؤلات الملحّة من الناس , وليس الفقه المعاصر هو الذي اقتحم أغوارها وأسس ميدانها , ولذلك تأتي أكثرها على هيئة بحوث فردية أو قرارات مجمعية سنوية , في مقابل مئات الكليات الشرعية ومئات الألوف من الفقهاء القابعين خارج الزمن , والذي يُنتظر منهم دورا يليق بشرف العلم الذي يدرسونه , والمطالبة هنا بدور أمثل للفقه ؛ ليس خروجا عن متطلبات الفقه الذي أسسه السلف وطوّره الخلف حتى القرن التاسع الهجري ؛ بل هو الواجب الحقيقي والتجديدي للتحضر الإسلامي المنشود , والعودة بالفقهاء إلى مراكز البحث والوقوف صفا واحد في معامل التجريب مع قرنائهم في العلوم الطبيعية الأخرى من أجل عودة تصحيحية لفقه العمران بعد خروجه من كنف العلوم الإسلامية .