المشاعر والوجدان مكوّن رئيس للإنسان مثل وجود الروح والعقل والبدن ، وهذه الأحاسيس النفسية مكمن لطاقة هائلة يحملها الإنسان في جوانحه وأعماقه, تستطيع هذه المشاعر أن تؤثر على دوائر عدّة في حياة من حوله تتجاوز محيطه الذاتي و عصره الآني, فالشاعر والرسام مثلا قد يحمل من خلال عمله الفني أوامر وأحكام وتقريرات صامته لكنها تتجاوز محسوس الإنسان الظاهري إلى تحريك الباطن الدفين وربما تفجير براكين خامدة داخل النفس الإنسانية ، ولا نعجب حينئذ أن يتناول القرآن خطابا خاصا للوجدان البشري مثل خطاباته للعقل أن ينظر ويتفكر ، أو للروح أن تسمو و تتطلع لحب الله ورجاءه ،والغرائز أن تشبع و تهذّب , وهناك في كل سورة بل كل آية ما يحرك الوجدان لعظمة الله أو المشاعر لتحقيق العبودية للحق سبحانه ؛ فأسلوب القرآن البليغ وتراكيبه العذبة وفواصله المعجزة وقصصه الرائعة وجمالياته الباهرة ؛ أثارت وجدان العرب في الجاهلية وهزتهم بقوة فكانت سببا في إسلامهم وخلع ثوب الكفر عنهم, كما أنها كانت تحديا للمعاندين أن يأتوا بمثله أو بعشر آيات من مثله ، وكانت دعواهم بأن ما سمعوه إنما كان شعرا أو سحرا ؛ كدليل قاطع على ثورة الوجدان في قلوبهم !.
والحقيقة أن هناك عبودية صادقة لله عز وجل من خلال تلك الأحاسيس اللاهبة في النفوس لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الفنون المتنوعة التي تحاول التعبير عن الوجدان بالكلمة الشعرية أو اللوحة التشكيلية أو القصة الخيالية أو المسرحية التمثيلية إلى غيرها من وسائل ورسائل قوية يبعثها الوجدان من خلال شفراته ورموزه إلى مكامن قلوب ومشاعر السامعين أو المشاهدين ؛ فتهزّهم بعنف بطريقة يعجز العقل عن إدراكها والغريزة الإنسانية عن تفسيرها .
هذه المقدمة من أجل تقرير حقيقة فطرية توارثتها جميع الحضارات بتأكيد دور الفن في تخليد الحقائق والأفكار , وعلماء الآثار المعاصرين يرون أن النظرية الفنية ليست وليدة اليوم بل هي من قدم الإنسان على الأرض , لأن التعبير الفني قائم بالفطرة الإنسانية منذ بدء الخليقة، فأقدم نموذج عرفة التاريخ هو تمثال لامرأة عارية من الحجر الجيرى ، عثر عليه فى النمسا، ويعرف باسم (فينوس ويللندوروف) ويرجع تاريخه إلى خمس وعشرين أو خمس وثلاثين ألف سنة، وهى الفترة التى يطلق عليها العصر الحجرى، أو ما قبل التاريخ ، والتى تنتهى مع بدايات التقويم الحالى، فالفن كان اللغة السائدة بين البشر قبل أن يعرف الإنسان الكتابة ويستخدمها فى التعبير !.
حقائق بالغة عبر التاريخ عرفها الإنسان من خلال الفن ،ومنعطفات حادة تغيّر حياة الكثير من الناس كان سببها الفن ، أمراض وأعراض صحية ونفسية كان الفن دائها ودوائها .
ومن أجل ذلك أتساءل ؛ مادام للفنون هذا الأثر البالغ في الحياة ، فلماذا ذلك التهميش المتعمد لدورها في حركة الإصلاح والتغيير في مجتمعاتنا الإسلامية ؟ مع أن هناك الكثير من الفنون المباحة وهي من الوسائل المشروعة في الدعوة والتبليغ ، وقد تم تحطيم فاعليتها من خلال فهم مغلوط لسد الذرائع ومبالغة واضحة في العمل بالاحتياط؟!.
وأتساءل مرة أخرى عن عزوف العمل الدعوي ومؤسساته عن المبادرة والسبق في مجال الفنون الجميلة بفتح الأبواب للمنافسة واستيعاب الشباب للمشاركة الواعية في المنتجات الفنية الراقية والملتزمة ؟ بعد أن أصبحت اقتصاديات العالم اليوم منساقة نحو الترفيه والمتع ، وبعد أن أصبح المشاهد العادي يقضي ربع عمره أمام القنوات الفضائية ، وهنا أطرح سؤال آخر ؛هل سنبقى خارج السرب نغرد لأنفسنا ونسمع ذواتنا أم أننا سنلحق بالقطار بعدما يغادر محطتنا ونتشبث بأطرافه بعدما يأخذ السابقين المبادرين أماكنهم في الجلوس ؟! . كم يؤسفني أن نبدأ دائما بتغليب الحظر والتخوّف من الشيء الجديد , حتى إذا تمكّن في كل أجزاء عالمنا الخاص عدنا مرة أخرى لتبريره والدفاع عنه وتسويغ المشاركة فيه ؟! والأمثلة كثيرة وللقاري إسقاطاته الخاصة أكتفي بنباهته في التأمل لها ، حتى لا تبتسر فكرة المقال في مثال يكون هو الرهان على قبول الفكرة أو ردّها !.
فالحقيقة الواضحة والتي تشهد لها الفطرة أن الدور الوجداني الذي تثيره الفنون ؛ أصبح مؤثرا وعميقا داخل نفوس الناس و أفكارهم عبر أدوات الفن وتعبيرات المشاعر المتنوعة ؛ كالقصيدة واللوحة واللحن الجميل الملتزم و الأدب النثري المتعدد إلى المسرحية الهادفة والتمثيليات السامية , كل هذه الأدوات وغيرها أضحت في عالم اليوم رهانات التأثير على عقول وقلوب الناس أجمعين شئنا أم أبينا , و الواقع المعاصر أثبت دور هوليود في تمرير أفكار العنف والتسامح الأمريكي والتعالي الأبيض على الآخر و نشر الأنموذج الغربي على العالم كله مالم تستطع القيام به كل مؤسسات الحكومة الأمريكية على مدار عقود من الزمن , ومثلها والت ديزني , وأفلام الكرتون الياباني و برامج BBC ,CNN,ABC وغيرها من أدوات سيطرت على الوعي لدى الكثير من العوام وعلى اللاوعي عند المتمنع من النخب المثقفة أو السياسية . هنا نتساءل أمام تلك النازلة عن الموقف الشرعي جراء هذه الأدوات الاستعمارية الناعمة وما هو الدور الفقهي الذي يجب أن يقدمه العلماء المسلمين ؛ كخطابٍ جديد يستشرف المستقبل ويقرأ الواقع بفقه ودراية علمية ، وكبديلٍ مباح يمنع الناس من التهافت نحو المخالف للدين والعقل .
كما أني لست بصدد تأصيل الموقف الشرعي للتعامل مع الفنون المختلفة بذكر النصوص والشواهد النبوية في تسويغ هذا العمل ؛ لأن القاعدة في هذا الشأن هي الإباحة الأصلية ما لم يرد دليل من الشرع على البطلان والمنع ؛ كإبراز مفاتن النساء في الرسومات والصور والتمثيليات ، أو تسويغ الشرك والمضاهاة لخلق الله تعالى كما في المجسمات والتماثيل ،أو إشاعة الفواحش والبذاءة و الأخلاق الرديئة في الشعر والغناء و الأدب النثري ، كل ذلك وغيره مرفوض ممنوع في الشريعة كما أن العقول السليمة لا ترضاه و تأباه على الناس .
وأعتقد أنه من المفترض أننا تجاوزنا هذه المرحلة إلى البحث عن مبادرات عاجلة وبرامج ناضجة تُقدَّم كبديلٍ مشروع للأعمال الفنية الملتزمة ، وهذا لا يتأتى إلا من خلال مؤسسات مالية تقوم بالإنتاج الفني وتراعي قيم الشريعة وتحافظ على الجودة العالمية في تقديم برامجها وأعمالها . وهذا يحتاج جرأة وعمل محسوب، ولن يُعدم من الناقدين المتخندقين للدفاع و الذم وسب الواقع فقط ، بينما طبيعة المعركة تحتاج إلى إقدام و وعي و إيغال في ساحة المقابل وسحب البساط من تحته ، وقديما سوّغ الإمام ابن القيم رحمه الله – كمبادرة منه-أن يتجوّز العالم ببعض الرخص لتحصيل مقاصد أكمل في نفوس الناس لترشيد غرائزهم في اللعب و اللهو ؛ وفي ذلك يقول : ( وهل الاستعانة على الحق ، بالشيء اليسير من الباطل إلا خاصة الحكمة والعقل ، بل يصير ذلك من الحق إذا كان معيناً عليه ، ولهذا كان لهو الرجل بفرسه وقوسه وزوجته من الحقّ ،؛ لإعانته على الشجاعة والجهاد والعفّة ، والنفوس لا تنقاد إلى الحق إلا ببرطيل ، فإذا برطلت بشيء من الباطل لتبذل به حقاً وجوده أنفع لها وخير من فوات ذلك الباطل كان هذا من تمام تربيتها وتكميلها ، فليتأمل اللبيب هذا الموضوع حقّ التأمل ، فإنه نافع جداً .والله المستعان ) .
ولا أظن عاقلا اليوم يرى أن موقف التفرج والصمت عما يحدث لعقولنا وقيمنا وأجيالنا القادمة أنه المطلوب شرعا ؟! ؛ بل أعتقد أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصح الخلق و قول الحق يقتضي العمل الجاد والمبادرة العاجلة لتحويل هذا الإقبال الشديد نحو الفنون إلى خدمة للدين و مشروع للإصلاح الرشيد .
والعمل الفقهي المعاصر أبدع في حلول كثيرة مرت بها المصرفية الإسلامية و نوازل الطب الحديث وغيرها من المستجدات , و هو اليوم في محك البحث عن البدائل المشروعه للفنون العالمية المتنوعة , وأقترح أن يقوم مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بالبحث وتجلية الأحكام حول نوازل الفن المعاصرة , ولا بأس من جمع الفقهاء وأهل الصناعة الفنية في البحث عن الحلول والعلاجات السديدة لهذه القضايا الطارئة , ولنا في مقاصد الشريعة مسوغ للعمل وحافز على البحث وسياج من الخلل والزلل ، فالفن الغارق في الوثنيات وتجسيد الأصنام والشركيات والسحر مخالف لحفظ الدين , والفن الذي يدعو للبشاعة وانتهاك الحرمات الخاصة وتسويغ الدماء والعنف أو العنصرية يعتبر إخلال لحفظ الأنفس ، والفن المشيع للفساد والحب الرخيص المكشوف من الحياء والداعي للعلاقات المحرمة خارج إطار الزوجية مخلٌ بمقصد حفظ النسل , كما أن الفن المهمّش للعقل والفكر الصحيح والمسوغ للإلحاد والفجور مخالف لحفظ العقل والفن الهابط في معناه والمزوّر على الناس في أصله والسارق لجهود الآخرين والمبالغ في قيمته مخالف لحفظ المال .فهذه المقاصد الشرعية هي الإطار الخلقي الذي ينبغي مراعاته في صحة الفن من عدمه . بقي أن أقول ؛إن نجاح المبادرات العملية مرهون باستجابة العقول الواعية لتنفيذه ! فهل العقل الفقهي المعاصر قادر على تحويل هذا التهافت العالمي نحو الفنون التي فرضتها العولمة المادية إلى خيارات محببة لزرع القيم وترسيخ المقاصد الدينية من خلال ثورة الفنون الجامحة ؟!