ازدهرت مشاريع النهضة العربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي ، وكان للحروب
والنكسات العسكرية دور الوقود في إشعال العقل العربي نحو التفكير الجاد بحثا عن حل
لأزمات الضعف والانكسار التي أصابت عالمنا العربي في أكثر ميادينه التنموية ، هذه
المشاريع الفكرية أنتجت حراكا ثقافيا و نشرا مطردا لجهود عدد من المؤلفين الكبار
أثرت بشكل ملحوظ في ثراء المكتبة العربية بسؤالات النهضة و تشريح العقل العربي و
نقد المنتج الثقافي ومساءلة الخطاب الديني ، وبرز لدينا عدد من المفكرين الذين
تبلورت لديهم نظريات ومشاريع ذات علامة مسجلة تثبت لهم الريادة العالمية .
أمام
هذا العطاء الفكري؛ يظهر للمتابع انحصار تلك الجهود في الرجال دون النساء، بمعنى أن
المرأة المثقفة كانت خارج هذا الإطار كليا ، وهي وإن كانت في دائرة الحدث وشكّلت
نوعا من الحراك والمواجهة داخل تيارات الفكر في أكثر من بلد خصوصا قضية تحرير
المرأة ،إلا أنها أبعد ما تكون عن صناعة الفكر و الدفاع الذاتي عن قضاياها ،
واستسلمت للرجل ليتكلم عنها في حالة ظلمه لها وحتى في حالة الدفاع عنها ، لم يبرز
طوال ثورة الفكر العربي أي مشروع معرفي أصيل تقدمه المرأة للساحة الثقافية ، هذه
السلبية والموات الطويل تدعو للتساؤل حول أسباب هذا العجز وتخلق تعجبا محيرا ،بأن
الميدان الفكري لم تحرم منه المرأة ولم تعارضه كل التوجهات و التيارات على اختلاف
مشاربها ، ومع ذلك كان الإنتاج الثقافي متواضعا للغاية ، ولا يليق حتى بدعوى
المساواة مع الرجل التي تنادي بها المرأة المعاصرة ،و كأن المطالبات النسوية
بحقوقهن اختزلت في البحث عن فرص العمل والمشاركات السياسية والانسياق خلف
(الفرقعات) الإعلامية ، بينما الميدان الثقافي الرحب والدور الإصلاحي والتغيير
الأعمق في بنية المجتمع ،كان شبه خالي من الكوادر الثقافية النسائية المتميزة.
أعتقد أن هذا السؤال الكبير يجب أن يطرح اليوم وبشكل مستمر ،عن هذا الغياب الطويل
للمرأة دون أن تقدم مشروعا فكريا أصيلا يليق بحجمها الكمي والنوعي ، في مقابل إنتاج
محدود و سطحي ظهر التنافس على سوقه اقتصاديا أكثر من كونه ثقافيا ، وحققت فيه
المرأة ريادةً إعلامية بألقابٍ خدّاعة من خلال روايات كسر المعروف ومعاندة المألوف
، ومع كونها شكلت ثراء في هذا المضمار إلا أنها خارج صناعة المشروعات الفكرية
الأصيلة ، وقد استثني مشروع (المرأة العربية والمجتمع في قرن) الذي أسس بنيةً أولية
لجمع ما صُنِّف من مؤلفات تحدثت عن قضايا المرأة و وضعت منهجية لتحليل الخطابات
العربية المعاصرة حولها، وقد أشرفت عليه وقدمت له الدكتورة منى أبو الفضل, وأنجزت
تحريره الدكتورة أماني صالح بالتعاون مع زينب أبو المجد وهند مصطفى, وهو وإن عُدَّ
من مشاريع الفكر إلا أنه مازال في مراحله الأولى التي تحتاج إلى جهد التواصل
والتماسك مع ما سبق من جهود وأعمال ، وهذا العمل المبشِّر على محدوديته يكشف العجز
العربي والإسلامي من وجود مفكرات و رائدات يحملن رايات التغيير و يسهمن في نهضة
المجتمع ، لهذا يبقى السؤال مفتوحا ، عن أسباب هذا العجز الملحوظ بقوة خصوصا في
عصرنا الحاضر الذي بلغت فيه المرأة منزلة عليا من حيث المطالبة بحقوقها و وصولها
إلى ما تريد ، ويمكن تقريب الجواب على هذه الظاهرة بعدة توقعات ، منها انسياق
المرأة في مطالباتها بالأنموذج الغربي الذي تعامل مع المرأة كندٍّ لها ، ومغيِّب
لحقوقها ، فاستلهمت المرأة الغربية مناهضتها لهذا التهميش بالمواجهة مع الدين
والثقافة المكرّس لهذا البُعد النسوي من التأثير بالحياة ، وحتى مع وصول المرأة
الغربية لأعلى الحقوق والمساواة بالرجل إلا أن روح المعركة والمفاصلة لا يزال يخيم
على أدبيات الإنتاج الفكري للمرأة ، وهذا السبب في حقيقته غير موجود في تراثنا
الإسلامي و إن كان مركوزا في أعرافنا القبلية والمجتمعية، فالشريعة الإسلامية تعتبر
من مميزات مفارقتها للجاهلية حصول المرأة على حقوقها الدينية والمدنية كاملة إلا في
مسائل تم استثناؤها ، كان مرجع التفريق فيها؛ للطبيعة الأنثوية أو مصلحة المجتمع
؛مثل التعدد والميراث والشهادة على تفصيل مقاصدي لا تختزل فيه تلك الأمثلة وتفهم
بعيدا عن سياقها وارتباطها بالواجبات الأخرى للمرأة أو للرجل، فالنبي صلى الله عليه
وسلم قال :" إنما النساء شقائق الرجال " وعمر رضي الله عنه قال :" والله إنا كنا في
جاهلية ما نعير للنساء أمراً حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم" فهذا
الفارق بين الجاهلية والتخلف وبين التحضر والتقدم كان من معاييره مساواة المرأة
للرجل وممارستها دورها الحيوي في نهضة المجتمع ، وقد يكون من الأسباب ؛الخوف على
الهوية أو الذوبان في الآخر مما حجّم دورها وأضعف إمكاناتها و غوّل بشكل كبير خطر
التغريب وضرورة الاحتجاب عن ميادين الحياة وليس عن مخالطة الرجال ، وهذا الخطاب مع
أهميته التحصينية لا ينبغي أن يتحول إلى عزل المرأة التام عن البرامج التنموية
والإصلاحية في مجتمعها، والإغلاق عليها في خنادق الدفاع المميت، وأقبية الانطواء
المخيف ، كما أن ضمور الفكر الناقد وانسداد آفاق التفكير الموضوعي لدى الكثير من
المثقفات خصوصا الإسلاميات منهن ، ربما ساعد على تأجيل الكثير من المبادرات
التنموية لنساء المجتمع، ولعلي أبرر هذا الغياب بقلة الوسائل الناجعة لإيصال
أفكارهن وتنفيذها من خلال النظم والقوانين، وكذلك وصاية الرجل الكاملة عليها؛ مما
أدّى إلى ذهاب الكثير من الجهود بلا جدوى، وما له جدوى لا يجد ما ينمّيه من جهود
وأموال.
إن صحوة الفكر النسوي الحر المنطلق من مشكاة الشرع الحنيف ومقاصده
الكلية والقادر على برمجته في مشاريع حضارية هو ما نأمله من تلك النخب المثقفة، ولا
يتم ذلك إلا بالفكر الواعي، والتخطيط السليم، والفعل الجماعي الذي يولد مشروعاتنا
الفكرية الحاضنة لكل المتغيّرات الراهنة، دون الحاجة لإشغال الوقت وتضييع الجهد
بالردّ على المتطرفين والتغريبيين، أو الهجوم على المستورد الأجنبيّ دون تمييز، وإن
علت أسهمه في سوق مجتمعنا النسائيّ؛ فالأجيال القادمة من الفتيات تحمل الكثير من
التساؤلات المُلحّة حول الحريات والحقوق والعدالة و المساواة الكاملة مع الرجل
وغيرها..
وأفضل إجابة عن تلك التساؤلات الحتميّة ما يرونه عياناً من مشاريع
تنموية يندمجون فيها ويمارسون من خلالها دورهم في البناء، وتصبح مفاهيم الحرية
والعدالة والمساواة والنهضة والحضارة حقائق حاضرة في أنفسهن ومجتمعهن.. إن هذه
الخطوة تأخرت بما فيه الكفاية، وقد حان الوقت لتصمت أبراج النخب العاجيّة، وينطق
العمل البناء المؤسسي، ونغرس فسائل النخل المعطاء؛ فالساعة لو قامت وبين يديّ
إحداكن فسيلة "فلتغرسها "!