الفقه السياسي عند ابن تيمية .. رؤية مقاصدية
د. مسفر بن علي القحطاني
زوار : 2187  -   11/10/2010
 
 

لم يزل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مثارا للجدل الفقهي والكلامي من عصره حتى اليوم ، وربما كان للمعطيات التاريخية والجغرافية منذ عهده حتى اليوم سببا لدخول أبن تيمية معترك الخلاف بين ظاهرية النصوص ومقلدة الفقهاء و بين تياره التجديدي المقاصدي القائد نحو حسن الفهم التأويلي للنصوص وتصور الواقع العملي للتنزيل ، وبسبب هذا التوجه لابن تيمية واجه أعداءً من صنوف شتى ، تكاد تتفق على إنكار مساره التجديدي ومحاولاته الاقلاعية المناهضة لواقع الجمود الفقهي والخمود الحضاري .
هذه الحالة التيميّة التي تبناها من جاء بعده من الفقهاء والمصلحين ، قدمت للعقل الفقهي تجديدا بروح العصر ، بالرغم أن هناك صورة مغايرة لبعض أتباع ابن تيمية ممن ينكر التجديد ويخافه ، ويشدد على المخالف و يغتاله، وفي اعتقادي أن هذا السلوك نظر لابن تيمية من زاويته الفكرية و تعامل مع فتاواه وآراءه من خلال حاجاته أو معاركه الشخصية ، ولعلي في هذا المقال أن أبرز موقف ابن تيمية الفقهي والتجديدي في أهم المسائل السياسية التي لها امتداد مع واقعنا المعاصر ، من خلال النقاط التالية :
أولا : ناقش ابن تيمية القضايا السياسية المتعلقة باختيار الحاكم وتولي السلطة والعلاقات الدولية بين المجتمع الإسلامي وغيرها من خلال مقاصد الشريعة وتعامل مع متغيراتها من خلال الفقه المصلحي وقواعد الشرع الكلية ، في ظروف قاهرة مرت بها الأمة بسبب الاجتياح المغولي والصليبي، وبرز فقه ابن تيمية السياسي بوضوح من خلال ردّه على الشيعة في خلافهم مع السنة حول الإمامة في كتابه الكبير " منهاج السنة النبوية " ورسائله الصغيرة " الحسبة " و " السياسة الشرعية " التي تعرض فيها إلى أهم المسائل الفقهية للولايات الدينية والمدنية .
ثانيا: يرى ابن تيمية أن اختيار الحاكم يحصل بالطرق الفقهية التي ذكرها الفقهاء مثل البيعة و ولاية العهد (الاستخلاف) و بالقهر والغلبة كما هو عند البعض ، ويضيف أن النص (النبوي) دلّ على ثبوت الخلافة لأبي بكر ، وينظر أبن تيمية في هذا الموضوع الخطير من زاوية مقاصدية أخرى ، وهي أن أساس الاختيار يحصل لمن له القدرة والسلطان و وافقه أهل الشوكة ، يقول رحمه الله :" فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما" ( منهاج السنة 1/529) ، فلا يرى أيضا اشتراط عدد من أهل الحل والعقد لصحة البيعة ، فسلطة الأمر الواقع التي تحصل بها مقاصد الإمامة هي سلطة شرعية عند ابن تيمية ، ويؤكد على ذلك بقوله:" فالدين الحق لا بد له من الكتاب الهادي والسيف الناصر " (منهاج السنة 1/531) واعتقد أن حسم الأمور في اختيار الحاكم بحصوله على القدرة والسلطان ، وموافقة أهل الشوكة من المؤثرين في القرار أو النفوذ ؛ لاشك أنه يحسم المنازعة في إثبات الشرعية لمن يدعيها نظريا ويفقد أدواتها عمليا ، هذا بشرط أن تكون الكتلة المؤثرة هي لأصحاب الشوكة القادرين على إنفاذ الحكم وتحمل مسؤولياته ، وقد تتغير الكتلة المؤثرة نحو الغالبية الشعبية كما في مجتمعات اليوم التي تمارس الديمقراطية ،فبقرارها الجماعي أو الأغلبي تتحقق فيها القدرة وبيدها تحصل الشوكة وشرعية الدولة ، وهذا كله يدور مع مصلحة العمل بالعدل بأقل الخسائر المكنة دون تحديد إطار معين لا تثبت الشرعية إلا من خلاله .
ثالثا: برز فقه ابن تيمية السياسي في موضوع صفات الإمام وشروط الولاية ، فقد خرج عما قرره الفقهاء من صفات كثيرة تتعلق بالكفاية والعدالة وسلامة الحواس والاجتهاد والقرشية وغيرها ، واقتصر نظره المقاصدي إلى أهمية تحقيق شرطين رئيسيين ، كما في قوله :" فإن الولاية لها ركنان : القوة والأمانة ، كما قال الله تعالى : (إن خير من استأجرت القوي الأمين) " (مجموع الفتاوى 28/253) ، كما أنه قصر مقصود الولاية في قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (انظر: مجموع الفتاوى 28/66) وقال في نص آخر :" والمقصود و الواجب بالولايات ؛إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرنا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا ، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم " ( مجموع الفتاوى 28/262).
رابعا: قرر ابن تيمية أصلا مقاصديا عاما عليه مدار الولايات الصالحة ، واختزل فيه واجبات الإمام أو الحاكم ، فقال مؤكدا ذلك:" أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل : فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة " (مجموع الفتاوى 28/246)، ورسائله العلمية و واقعه العملي جاري على هذا المقصود العظيم ، فابن تيمية لم يلتزم بالآليات الفقهية في تحديد عمل الحاكم ؛بل جرى على مقصود الشرع العام الذي لم يفصّل في واجبات لم ينزل الله بها من سلطان خصوصا في قضايا السياسة ومعاش الناس، بل تُركت وفق واقع المجتمعات ومتغيراتها الحياتية ، يقول رحمه الله :" عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف وليس لذلك حدّا في الشرع" ( مجموع الفتاوى 28/68).
خامسا: يمكن التدليل على مقاصدية ابن تيمية في العمل السياسي والموازنة المصلحية فيه ؛ فتواه الشهيرة في جواز عمل المسلم تحت إمرة من يُكلِّفه بأخذ المكوس (الضرائب) على وجه الظلم والتعدي المحرم ، ولكنه قد يخفف بعض الظلم في العمل ضمن تلك الولاية ، فأجابه ابن تيمية :" لحمد لله ، نَعم!! إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه وولايته خيرٌ وأصلح للمسلمين مِن ولاية غيره واستيلاؤه على الإقطاع خيرٌ مِن استيلاء غيره -كما قد ذكر- فإنَّه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع ولا إثم عليه في ذلك بل بقاؤه على ذلك أفضل مِن تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه، وقد يكون ذلك عليه واجباً!! إذا لم يقم به غيره قادراً عليه . فنشر العدل -بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان- فرضٌ على الكفاية يقوم كل إنسانٍ بما يقدر عليه مِن ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه مِن رفع الظلم".(مجموع الفتاوى 30/ 356).
سادسا: برزت النظرة المقاصدية أيضا في فتوى ابن تيمية المتعلقة ببلد ماردين هل هي بلد حرب أو بلد سلم ، وذلك أن فيها بعض أعداء الإسلام المحاربين ويسكنها بعض المسلمين ، فكان جوابه مقاصديا لم يضعهم في أحد القسمين؛ بل جعلها مركبة من دار الحرب والإسلام ،يُعامل كل فريق بما يستحقه وفق المصلحة والقدرة على الامتثال. وهنا يتجاوز ابن تيمية التصنيف الفقهي للديار وما يترتب عليه من أحكام ، فالوضع المعاصر للدول والحكومات لو تم إسقاطه على التصنيف الفقهي للديار لوقع الحرج في التنزيل وأورث حالة من المواجهة الدائمة مع الدول الكافرة ، وهذا مخالف لواقع الناس اليوم والتداخل الكبير في مصالحهم ، وارتباطهم بالمواثيق والمعاهدات والأحلاف الدولية ، ولا شك أن محاولة ابن تيمية في تجاوز هذا التقسيم تعطي الفقه السياسي رؤية مقاصدية تضبط العلاقة مع الآخر وفق ثوابت الولاء والبراء ومصالح المسلمين وموازين القوة والضعف في بلدانهم ، ويحسن الإشارة أن كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم ) صُنِّف في ضمن الإطار العقدي القائم على صلاح الفرد من شوائب الشرك و التقليد ، وفرقٌ بين الحديث عن أهل الكتاب في الإطار السياسي والمدني الذي تدخل فيه عوامل أخرى لها علاقة بأمن مكونات المجتمع من الفوضى والاحتراب ، وعوامل السلم والحرب القائمة على موازين المصلحة و القوة .
يظهر مما سبق عرضه بإيجاز شديد –وربما مخل- أن فقه ابن تيمية السياسي كان مقاصديا يستلهم كليات الشرع ومصالح الخلق في التنزيل الواقعي للسياسة الصالحة، وحُكم بعض المتأخرين على فساد الأنظمة السياسية المعاصرة شرعيا، أو حرمة الديمقراطيات و المواثيق الدولية والتعاون مع الجمعيات الحقوقية الدولية وغيرها ،يحتاج إلى تريث واعتدال وموازنة تفحص الواقع وتمايز بين المصالح والمفاسد ، وكم نحتاج اليوم إلى رسم ملامح فقه سياسي رشيد يستلهم الكليات ويدرك المتغيرات ، ويقي الأمة خروج الجاهلين وإفساد الغالين .

 

 

الإسم  
الدولة  
البريد الإلكتروني   
تقييم الموضوع  
التعليق  
رمز التفعيل


 
 
 

د. سارة بنت عبدالمحسن