لم يكد المثقفون السعوديون يتنفسون الصعداء بعد القرار الذي أصدره الدكتور عبد
العزيز خوجه وزير الثقافة والإعلام السعودي بفسح جميع كتب الشاعر والروائي وزير
العمل السعودي الدكتور غازي القصيبي حتى عاد السؤال مجددا «وماذا عن الكتب
والمثقفين الآخرين»؟
ويبدو أن حالة التفاؤل بهذا القرار لم تدم طويلا بعد أن
أعلن الوزير خوجه في رد على مطالبة الروائي عبده خال بمساواة بقية الروائيين
السعوديين بالدكتور غازي القصيبي، أنه ليس بيده استغلال منصبه، حتى لفسح كتبه
الشخصية التي يعد بعضها ممنوعا من التداول في السعودية.
* سيريالية المشهد
التي تتجسد في منع كتب وزير شغل ويشغل مناصب هامة وحساسة في الدولة، ومعه وزيران
عريقان للإعلام، أحدهما الدكتور محمد عبده يماني، والآخر الوزير الحالي، يعيد طرح
قضية محنة الكتاب بين الفسح والمنع. وهي المحنة التي يعلق عليها بعض المثقفين
السعوديين بقولهم «أصبح المنع قاعدة والفسح استثناء».
وما يقلق أي مثقف هو
ضبابية المعايير التي تحدد ما الذي يمنع وما الذي يفسح؟ وهل تخضع عملية الفسح
والمنع لضوابط واضحة يلتزمها الكاتب حتى يضمن نشر كتبه. إنها الجدلية التي ما زالت
تتجدد منذ ولدت العلاقة بين السلطة والمثقف. تاريخيا، يوضح الباحث منصور المشوح في
كتابه «حكاية منع الكتب.. وقائع تاريخية ودوافع دينية وسياسية واجتماعية» أن المنع
كان متباينا ومتفاوتا إلى حد كبير، إذ إن بعض الحضارات كانت تكتفي بمصادرة الكتاب
وإنذار مؤلفه فقط، والبعض الآخر كان يمارس التعذيب والاضطهاد، أو النفي، أو ربما
القتل، أو حتى الإحراق ضد الكاتب أو الناشر أو المؤلف.
ويشير الباحث المشوح
إلى أن تاريخ المنع الفعلي في عهد العباسيين يعود إلى سنة 167هـ حين «اجتهد المهدي
(ت169هـ) في السعي إلى قمع الفلاسفة وتمزيق كتبهم، ثم عندما جاء الخليفة هارون
الرشيد (ت193هـ) أمر فقط بسجن أهل علم الكلام، ثم جاء بعد ذلك المأمون (ت 218هـ)
فأطلق للحرية العنان، فتمتع علماء الكلام والفلاسفة وغيرهم في أيامه بأجمل حسنات
الحرية المطلقة».
ومن المعروف إن هناك ثلاثة مواضيع قد تتسبب في المنع هي:
الدين، والسياسة، والجنس. فهذه الأشياء مقدسة لدى كل الشعوب، إذ إن الدين يمثل
الاعتقاد، والسياسة تمثل الدولة، والجنس يمثل المجتمع.
لذلك فإن التعرض
للدين يعني الخروج عليه أو على شيء من تعاليمه، والتعرض للسياسة يعني انتقاد الحاكم
فيما يفعله أو ما يفعل به أو ما تفعله حاشيته أو ما يفعل بها، والتعرض للجنس يعني
«الانحلال والإباحية».
وهي ذاتها الأمور التي تقول وزارة الإعلام السعودية
بأنها المحظورات التي تمنع أي كتاب من التداول والنشر والطبع داخل السعودية. يقول
الدكتور عبد الرحمن الهزاع المتحدث في الوزارة في تصريح سابق لـ«الشرق الأوسط»:» إن
ثالوث الدين والسياسة وقيم المجتمع هو خط أحمر يحول دون السماح بدخول الكتب التي
تعتدي عليها، وإن «رفع سقف الحرية لا يعني أن نسمح بتداول كل ما هو خادش لثوابتنا».
ولكن من الذي يحدد إذا كان الكتاب قد تعرض إلى الدين فعلا، وأساء إلى مقدساته؟ وما
هي مظاهر الإباحية التي يتفق الجميع على أن الحديث عنها يعد أمرا محرما؟
في
هذا الصدد، يطالب الناشر محمد العبيكان مدير مكتبات «العبيكان» السعودية بسن قوانين
ومعايير واضحة تحدد لماذا يمنع الكتاب، وما هي الكتب الجديرة بالمنع. ويقول: «الكتب
التي يجب أن تمنع هي تلك التي تحمل إساءة إلى الدين أو تجريحا في الرموز وإذا تم
وضع هذه الضوابط فستزول الضبابية التي تكتنف مشهد الكتاب في السعودية». ولا يحمل
العبيكان الرقيب الذي يصدر قرار المنع كل اللوم مؤكدا أن هناك كتابا يتقصدون حشو
كتبهم بما يتسبب في منعها من أجل الدعاية، سعيا إلى زيادة انتشار الكتاب والطلب
عليه عملا بالقاعدة المعروفة «كل ممنوع مرغوب»، مشيرا إلى أن الكتب التي تمنع تلقى
إقبالا أكثر من تلك التي تفسح، خاصة أن منع وصول الكتاب إلى يد القارئ أصبح عملية
صعبة وغير فاعلة في عصر تكسرت فيه الحواجز وأصبح الوصول إلى الممنوعات ممكنا عبر
الوسائل التقنية.
وتأكيدا لما يقوله العبيكان، فإن الحقيقة التي يدركها
القارئ والكاتب والناشر والرقيب أن أحدا لن يجد صعوبة، مثلا، في الوصول إلى كل
مؤلفات غازي القصيبي التي أفسحت مؤخرا سواء عبر جلبها من الدول المجاورة أو من خلال
معارض الكتاب أو الإنترنت.
ويطالب العبيكان المؤسسات الثقافية والمعنية
بالشأن الثقافي، بإنقاذ الكتاب بدلا من الحجر عليه، ويقول: «الكتاب يتراجع ويحتضر
في ظل ظروف متغيرة ولا بد من وقفة جادة لإعادة الاعتبار إليه ودعم المؤلفين»،
معتبرا أن ممارسة الرقابة الذاتية لدى الناشر والمؤلف وتحديد معايير واضحة هو عمل
أجدى من مقص الرقيب.
أما الشاعر الدكتور سعيد السريحي، فيرى أنه لا يوجد
كتاب جدير بالمنع، وهو يتعجب «من أمة ترتعد من كتاب»، كما يعتقد «أن منع كتاب واحد
هو حجر على عقلية المجتمع بأكمله وتوجس من الكتاب والمثقفين». ولكن السريحي يقول
أيضا إن «عزاء المثقفين هو في ارتفاع الستار واتساع هامش الحرية حتى انتشرت كتب لم
يحلم المثقفون يوما بتداولها». ورغم أنه يعتبر القرار الذي أصدره وزير الإعلام خوجه
بفسح كتب الدكتور غازي القصيبي قرارا ذا طابع شخصي، إلا أنه يقول: «سأنظر لهذا
القرار في إطار ما تشهده الحركة الثقافية من انفتاح واتساع لهامش الحرية، وما أثاره
هذا القرار ليس جانب الفسح بل هو السؤال عن بقية الكتب الممنوعة والمهاجرة وتاريخ
عودتها إلى المكتبة السعودية في الداخل». لقد انتظرت كتب روائي وشاعر وزير بحجم
الدكتور غازي القصيبي 30 عاما حتى أصبحت قابلة للبيع والتداول في السعودية، فماذا
عن كتب الآخرين؟ يقول الروائي عبده خال لـ«الشرق الأوسط»: «ربما تستغرق كتب
المثقفين السعوديين 60 عاما قادما حتى تفسح. إن وجود كتب لشخصيات بحجم الوزير غازي
القصيبي والوزير عبد العزيز خوجه وقبلهما وزير الإعلام السابق محمد عبده يماني في
قائمة المنع يطرح تساؤلا هاما مفاده (من يقف خلف المنع)؟ ومن يملك سلطة المنع؟».
ويرى خال بأن المنع هو قرار اجتماعي في أصله وليس قرارا سياسيا بالضرورة فهذا
المجتمع الذي يرفض أي فكرة تخالف توجهه جعل المنع قاعدة والفسح استثناء. ويضيف خال:
«المنع في أصله هو تحرز من عدم الإشارة إلى فئة معينة وقد حدث في زمن مبكر، وبقاؤه
على حاله رغم مرور فترة طويلة جدا هو بفضل ثبات الأشياء وبقائها في هذا المجتمع
وعدم التراجع عنها».
ويرتبط حديث خال حول «من يمنع الكتاب» بـ«جدلية السلطة
والنفوذ» إذ إن هناك أطرافا معينة قد لا تمتلك سلطة المنع والفسح غير أنها تملك
النفوذ الذي يخولها ممارسة هذه السلطة طبقا لتفضيلاتها الشخصية ومن دون اتفاق
مجتمعي يشارك فيه الجميع.
ويجيب خال على سؤالنا حول كيفية الخروج من دائرة
المنع بقوله: «إن الأمر لا يتعلق بالكتب بحد ذاتها بل هي منظومة ثقافية مكتملة تشمل
المسرح والسينما والموسيقى وهي أمور لن تجد طريقها إلى النور ما لم تقم المؤسسات
الحكومية والخاصة والمدنية، في حال وجودها، بخلخلة الوضع القائم وفتح الساحة أمام
بقية التيارات».
غالبا ما يرتبط المنع بالتعدي على الدين والإساءة إليه، إذ
إنه من السهل وصم كتاب ما بأنه كتاب ضلال. لكن، ما هي كتب الضلال؟ ومن يحق له إطلاق
هذا الوصف؟ وفي هذا الصدد يعلق الدكتور مسفر القحطاني أستاذ الدراسات الإسلامية في
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران، وهو ذو صلة وثيقة بالوسط الشرعي
والديني في السعودية، بقوله: «أعتقد أن هناك كتبا هي ضلال حقيقي ومتفق على إنكارها
ككتب السحر والشعوذة والإلحاد الديني وغيرها، أما الكتب التي تمثل نوعا من الخلاف
الفقهي والفكري المنسجم مع ثوابت الدين والوطن، فإن من المستحيل منعها والوقوف
ضدها».
ويقر القحطاني بأن محددات المنع أو الفسح غالبا ما تكون متأثرة
بالمواقف السياسية أو المواجهات الفكرية بقوله: «في فرنسا بلد الحرية تمنع بعض
الكتب والدراسات التي ترفض فكرة الهولوكست أو تحث على معاداة السامية، وهذا القانون
موجود في بريطانيا»، مؤكدا أن هناك حدودا للفسح والمنع تنقص وتزيد حسب وعي المجتمع
ومجالات حرياته المكفولة، وغالب المجتمعات الغربية وبعض الشرقية تحاول تخفيف هذا
الحصار على الكتاب لعدم ثبوت جدوى المنع اليوم حتى مع مخالفاته الصريحة.
ويشير القحطاني إلى أن المنع لا يتخذ شكلا سلطويا فحسب بل إن الفتاوى والبيانات
بدورها قد تحقق الحجر على بعض الكتب متجاوزة بذلك حدود السلطات التنفيذية وذلك
تأثرا بالتحزبات الطائفية والفئوية.
وإذا كانت قضية الكتابة والمنع والفسح
والتداول ترتبط فيها جهات عدة هي السلطة والكاتب والمجتمع والناشر فإن هذا الأمر
يفرض أمام كل واحد منها مسؤولية تجاه الكتاب الذي يعيش محنة الحجر. يقول القحطاني
في هذا الصدد: «السلطة ينبغي أن تسعى لدعم الكتاب والمؤلف لا التخوف والقلق منهما،
فالمتنور علميا في ساحة تعددية تتشكل لديه عقلية مرنة وأفق مفتوح للتعامل مع
المخالفات والمستجدات من دون وقوع مواجهة أو عداوة بين المنغلقين أو أحاديي الفكر
قد تخلق فوضى مجتمعية أو تحاربا باطنيا أو ظاهريا، فحب الكتاب وقراءته مشجعان للأمن
إذا كانت قنوات التعبير مكفولة ومسؤولية الكلمة مضمونة. إن للمجتمع مسؤولية كبرى
تجاه الكتاب، ودعمه وتوسيع انتشاره وتشريف مؤلفيه، لأنه راصد لتاريخ المجتمع ونبض
أفكاره وسجل إنجازاته وميدان تفاعلاته ومحاوراته، ومن الغريب والعجيب أن تدفع بعض
المجتمعات بالكاتب والكتاب إلى الهامش، بينما تقدّم من يخدّر المجتمع بالملاهي
ويغيبه عن الإنجاز والتقدم».
وبالنسبة للناشرين يقول: «أما بعض دور النشر
العربية، فإنها للأسف تبحث عن الكتاب الذي يضمن لها البيع وليس النفع، فالربحية
الطاغية على تلك الدور تدفعها لنشر كتب الروايات التافهة والأبراج والتوقعات
الخرافية، وإذا تم النشر فإن غبنا واضحا يلحق بكثير من المؤلفين المفروض عليهم
الزهد في عقولهم والإفلاس في جيوبهم».