صناعة الوعي .. ودوره في التجديد الديني
الدكتور مسفر القحطاني
زوار : 1152  -   6/1/2012
 
  أصبحت العودة إلى المفاهيم الأساسية للأفكار خصوصا الدينية منها،له أهميته الكبرى في ظل الانفتاح المعرفي و التداخل الثقافي و الجدل الواسع الذي احدثته وسائل الاتصال والتقنية المعاصرة حول ما هو ثابت ومتغير، وأظن أن الوقت قد حان للتعامل مع بعض تلك المفاهيم التغييرية والجوهرية ؛ و القادرة على إحياء النهضة المجتمعيه ، وإيقاضها من سباتها الذي استمر عقودا من الزمن، فواجب الوقت يملي على المعتني بشؤون الفكر الديني ضرورة إعادة النظر في الكثير من الأراء والاجتهادات الفقهية ببصيرة الفهم المقاصدي والإدراك الواقعي ، و ردّ الجزئي للكلي ، والظني المشتبه للمحكم المفسّر ، وأعتقد أن المدخل لهذه المرحلة الهامة من ربط الواقع بالشرع ، و تجديد الخطاب الديني ، هي بتحرير مفهوم " الوعي الديني" من قيود التقليل لشأنه أو التقليد والتماهي في الآخر الديني، مع تسليط الضوء المعرفي والفلسفي لحيثياته ، ومناطق التأثير التي يستطيع الوعي من خلالها أن يحرك العقل الفقهي نحو المزيد من التجديد والمواكبة لمتغيرات العصر الحديث. فالوعي عند الرغبة في تفكيك ماهيته -كمصطلح - شأنه مربك جدا للفهم والإحاطة المنطقية بمراده، والفلسفة الغربية وقعت في متاهة لا نهاية لها عند البحث عن ماهيته و معناه . فهو اللغز المحيّر والمتبادر أيضاً إلى كل ذهن، يقول القديس أوغسطين: "عندما لا يطرح المرء السؤال: (ما هو الزمان)؟ فإنه يعرف ما عساه أن يكون الزمان، ولكنه إذا طرح السؤال فإنه لا يعرف عن الزمان شيئاً" [ فلسفة العقل للدكتور صلاح أسماعيل 65]؛ فالوعي من حيث الاستعمال لا إشكال في توافق الأذهان على المراد العام منه، ولكن عند تحليل معناه وتوضيح مبناه المصطلحي فإن فضاءً واسعاً من النجوم البعيدة تراه أمامك في حيرةٍ وذهول. ففي هذا القرن طُرحت أسئلة عدة حول الوعي وماهيّته، ليس من الفلاسفة فحسب بل من علماء النفس والأعصاب والإدراك وحتى من بعض الفيزيائيين، كلها تدل على وجود لغز محير في ظلام دامس.[انظر: مابعد العقل الواعي لأنندا ميترا 4-26]، يقول (دانيال دينيت) في تفسير هذا المصطلح من الناحية المادية: "إن الوعي الإنساني هو تقريباً اللغز الأخير المتبقي... ثم يكمل بعدما سرد بعض الألغاز الكونية والطبيعية: ومع ذلك فإننا لا نزال مع الوعي في لبس شديد، فالوعي يقف اليوم بمفرده؛ باعتباره الموضوع الذي يترك حتى المفكرين العظام، وقد عُقدت ألسنتهم، وأخذتهم الحيرة من كل جانب"[ فلسفة العقل 67].وبالتالي خرجت عدة مناهج واتجاهات تحليلية للتعامل مع لغز الوعي، أو ما يسميه الفلاسفة "الفجوة التفسيرية"، وأغلب فلاسفة هذه الاتجاهات هم من الغربيين؛ فأصحاب النزعة الاستبعادية ينكرون وجوده بوصفه ظاهرة حقيقية، وأصحاب التصور الإعجازي ينظرون إلى الوعي على أنه لغز وسر يتجاوز الطبيعة، وهناك اتجاه يُسمّى (نزعة صاحب اللغز الجديدة)، ويرون أن الوعي ظاهرة طبيعية، ولكن تفسيرها النظري مستحيل، وهناك أصحاب المذهب الطبيعي، والذين يعتبرون الوعي ظاهرة حقيقية، ويمكن تفسيرها في حدود طبيعية. فهذا الاتجاه الأخير هو اختيار عدد من الفلاسفة المعاصرين مثل: تشيرشلاند ودنييت و فلاناجان وجون سيرل، ولعل الأخير أكثر من كتب في هذا الموضوع الذي أزال اللثام عن حقيقته في عدة مؤلفات .إلى غيرها من تفسيرات وفلسفات جمعت بين العقل والحقيقة و التأثير بالطبيعة والتجاوز خارج الوجود الإنساني.[ انظر : تاريخ الوعي لمونيس بخضرة 17-36]. نلحظ مما مضى أن هناك ملامح نظرية علمية للوعي متروكه لمستقبل التطور البحثي في علوم النفس والعقل والأعصاب يتنبأ بها عدد من الفلاسفة المعاصرين. وهذا يفتح الباب للسؤال المعتاد في دور المفكرين والمثقفين المسلمين من هذا التنادي المعرفي لاكتشاف الوعي. وحتى نقدم مقاربة لمفهوم الوعي في إطار علومنا الإسلامية خاصة أننا عولنا عليه في التغيير والتجديد ، نحتاج إلى فحص واستقراء شامل لمفردة الوعي بمعناها العقلي والشرعي ، وهذا المجهود يحتاج إلى مؤسسات تتظافر في بحثها عن هذا المصطلح الملغوم بالكثير من التساؤلات . ومع إعذار نفسي للقاريء الكريم من تحمل هذه التبعة الثقيلة ،أحاول متجاسرا في هذه النقاط التالية رسم أهم المعالم الموضحة لمصطلح الوعي: أولا : إن للوعي معناه اللغوي الذي بدأ مستعملا في القرآن الكريم في أكثر من موضع ، كما في قوله تعالى :" "وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ" [الحاقة : 12] ، وقوله تعالى:" وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ " [ الانشقاق :23], وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله :" فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع" [ رواه البخاري رقم 4406]. وقال عليه الصلاة والسلام " لا يعذب الله قلبا وعى القرآن " [رواه الترمذي ويروى موقوفا عن أبي امامة]، فالوعي هنا جاء من الفهم وسلامة الادراك ، ومنه التوعية أي تكوين الفهم الصحيح لحقيقة ما يجري .[انظر: معجم لغة الفقهاء 1/506]، أما ابن منظور فقد حوى المعاني بقوله :"الوعي :حفظ القلب وفهمه ، والوعيُّ - أي الواعي - هو الحافظ الكيِّس الفقيه" [ انظر : لسان العرب 15/396]فالمعنى اللغوي والشرعي للوعي مشترك في تأكيد الجمع والإحاطة بالأمر المراد ،ولكن بفهم وصحة إدراك .أما الكتب الفقهية و الحديثية فلم تخرج عن المعنى اللغوي، ولم تؤسس عليه حججا فقهية او اصولا استدلالية ،ولكن بحوثهم حول حجية الفهم وشروط النظر والاجتهاد للفقيه ، و وسائل بناء الملَكَة ،قد يشعر بجهدهم في تناول المصطلح من خلال مرادفاته في المعنى . ثانيا: الوعي بمفهومه الديني ، المنطلق من حالة عليا للفهم والفقه ، والمتسق مع كليات الشرع وبدهيات العقل وحيثيات الواقع ، هو مرادنا في هذا المقال ، فهو مرحلة متقدمة من المعرفة العامة تتجاوز الفهم الشامل للمعنى إلى تحول هذه الفكرة وانعكاسها خارج مفهوم العقل نحو إمتثال الفرد لإملاءاتها دون تردد .وملامحه العامة لا تخرج عن تلك الأوصاف التالية: أ. "أن الوعي لا يحتمل العنف ولا يقبل الأكراه" كما يقول بول هازار[ انظر: أزمة الوعي الأوروبي 106] . ب. الوعي يستدعي براهينه ولا يقبل الإنقياد دون حجة ودليل .وقد بنى هوسرل نظريته في (منطق الوعي) على يقينيات راسخة في الوعي الجمعي للإنسان بالمعنى الانطولوجي وليس بالمعنى النفسي ، ويتم التعامل معه كما يتم التعامل مع علم الأعداد في الحساب [انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري ،المجلد2 الجزء 3 الباب12]. ج. الوعي ينعكس على الوجود الخارجي ، كما يقول مونيس بخضرة:" إن ما هو معروف عن الوعي ، هو أنه جملة من التصورات والأفكار المتنوعة ، التي تحصلها الذات بذاتها وعن العالم الخارجي والذي يجعلها في اتصال دائم معه" [ تاريخ الوعي 17]. د.الوعي ينهض بالتغيير ،لأنه يحيط بماضيه وحاضره وبالتالي يحسن فعل المستقبل و يرسم أهدافا واضحة فيه.يؤكد عبدالسلام المسدّي في مفهومه للوعي على هذا المنحى بقوله "إنه معاناة ، طينته طينة المكابدات القاسية: هو انتباه، فيقظة، فنضال. وتجديد الوعي عبء تنوء به الكواهل، يتخلق في رحم الثقافة، ويتولد بين أيدي السياسة، ويتدرج يافعاً في أحضان منظومات المجتمع كلها. المثقف في حاجة إلى وعي بالسياسة جديد، والسياسي في حاجة إلى وعي بالثقافة أجد" [ نحو وعي ثقافي جديد للمسدّي47]. ه.الوعي ينظم الذهن ويرتب اولويات الفكر ،فهو صمام أمان من التحولات الحادة و التقلبات السريعة التي تمليها التحديات الحياتية المتنوعة. هذه الجملة من الأوصاف يمكن أن توضح ملامح هذا المصطلح عند تطوير معناه نحو نظرية فكرية مستقلة. ثالثا:برز الحديث عن الوعي الديني في الخطاب التجديدي الذي حملته عدد من المشاريع الإصلاحية المعاصرة بدءاً من مشروع الإمام محمد بن عبد الوهاب ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، و ختاماً بالمحاولات الراهنة التي سعى عدد من الباحثين كالجابري و أركون والطيب التزيني لتفسير العلاقة الدينية بالنهضة، وتحليل مفاهيمها وإسقاطها على الواقع المعاصر. وقد كان الوعي الديني ومراجعاته أبرز الأجندة الإصلاحية التي حملها كل فريق؛ القدماء والمحدثين. أعظم هذه المقاربات النقدية للوعي الإسلامي التي قام بها بعض المفكرين المعاصرين كانت من خلال تقمّص المناهج العلمية الغربية؛ إما في التقريب أو التفكيك أو التهميش. فالمفكر المغربي محمد عابد الجابري قدم مشروعه في إظهار القيم المعرفية في التراث من خلال "نقد العقل العربي"، متناولاً البنية التراثية في أنظمةٍ ثلاثة هي: النظام البياني، والبرهاني، والعرفاني، ومؤسساً مقاربته على أبحاث الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. وفي منحًى آخر طرح المفكر الجزائري محمد أركون مشروعه التفكيكي في "نقد العقل الإسلامي" من أفكار جاك دريدا, وهي قراءة علمانية لإشكاليات الثقافة الإسلامية. وأعتقد أن علاقة الجابري وأركون بمفكري "ما بعد الحداثة" من قبيل التوافق على فصل التراث عن هويته الذاتية واتصاله التاريخي. أما الطيب التزيني وحسين مروة فقد كان المنحى التهميشي للدور النهضوي في الفكر الإسلامي، منطلقاً من المرجعية الماركسية التي يؤسسان عليها فلسفتهما المادية الجدلية. مع عدم إغفال عدد من المساهمات الأخرى مثل مقاربات زكي نجيب محمود، وبرهان غليون، وطه عبد الرحمن وغيرهم. هذه المشاريع والتحولات في أغلبها عودة نحو الوعي ودلالاته في النظر إلى الدين الإسلامي، ولكن من خلال رؤى مختلفة ومناظير مستوردة.[ انظر : إشكاليات الفكر العربي المعاصر للدكتور عبد الوهاب شعلان ، ص 18- 48]. رابعا: أعتقد أن الوعي الإسلامي لا يعاني من مشكلة إثبات الوجود؛ فهو حاضر في المكوّنات الرئيسة للدين من نصوص القرآن والسنة الواضحة في دلالاتها و ثبوتها من قرون طويلة، ولكن المشكلة المركبة لدينا هو في اكتشاف نظرية الوعي في بطون هذا الإرث العظيم؛ فغيابها أو تغيبيها ناتج عن انحرافات الجهل والأهواء الذي تلبسته الأمة في عصورها المتأخرة؛ على حسب رأي الإمام الشاطبي في دوافع الفرقة والانحراف في تاريخ الأمة. ويمكن تقريب النظر في أهم ملامح الوعي الديني لدى المسلمين، من خلال القضايا الأربع التالية: (الفهم البياني) الصحيح لدلالات النصوص على معانيها، و(التأصيل الاستدلالي) المعرِّف بأحكام النوازل الجديدة وفق قواعد التنزيل المحكم، و(الشهود الاستخلافي) القائم بواجب عمارة الدنيا ونهضة معاش الناس، و (التلازم المقاصدي) بجمع النصوص والفهوم لتتوافق مع حقائق المقاصد الكلية للشريعة، وتحقق المنافع من عبودية الخلق لله تعالى. فهذه الملامح الأربعة هي أشبه بمقاربة اجتهادية، يظهر فيها البُعد التجديدي،بتجاوزها الإرث الفقهي من محورية دوره في النظر؛ إلى كونه ملهما ومعينا في الفهم والتعامل مع النصوص، كما أن ثمرة هذا الوعي تكمن بشكل واضح جلي في قدرة هذه الفكرة الجوهرية في إلهاب الذهن نحو آفاق الحياة والكون ، استكشافا وعمرانا و تسخيرا للإنسان. وأخيراً ؛ آمل أن تكون هذه المقاربة الفكرية لدور الوعي في التجديد الديني أن تفتح الباب لرصد الجوانب الأخرى من هذه النظرية وتغري الباحثين في استكشاف مساقات جديدة لنهضة الأمة من خلال رصيدها الديني والمعرفي .
 

 

الإسم  
الدولة  
البريد الإلكتروني   
تقييم الموضوع  
التعليق  
رمز التفعيل


 
 
 

د. مسفر بن علي القحطاني