فقه التدبير المدني بين مزالق التأويل ومخاوف التغريب
د. مسفر بن علي القحطاني
زوار : 1214  -   11/8/2012
 
  تقوم عملية الإصلاح بشكلها العام على مقومات ثلاث ، هي إصلاح التفكير ، وإصلاح التعبير ، وإصلاح التدبير .( انظر : مقال:"الإنسان .خلق وعمل" للدكتور الشاهد البوشيخي، مجلة حراء ،العدد 20 ،سبتمبر 2010). فمعالجة المنظومة الذهنية والسلوكية للفرد والمجتمع يأتي من خلال صلاح التفكير والتعبير للفرد الواحد ؛على ان تستمر عجلة الإصلاح في توسيع دائرة الأفراد ليشكلوا حلقات واسعة من الصلاح الشعبي ، وتبقى علاقاتهم الحياتية ونظمهم المعاشية و روابطهم مع غيرهم رهن المعلم الثالث للإصلاح والمتعلق بإصلاح التدبير المدني . فالتدبير المدني كمصطلح متداول لإصلاح المعاش ؛خصوصا ما يتعلق منه في سياسة المجتمع وتدبير أحواله من خلال سلطة الحاكم ؛الأمر الذي يجعل هذا المصطلح في مواجهة مع بعض الفقهاء المتخوفين من تسلل المدنية الغربية كمصطلح للسياسة الشرعية ،وبالتالي حدوث الإنفصام بينما هو ديني ومدني ؛ كتجربة أوروبية مع الكنيسة يخشون تكررها لعلمنة البلاد الإسلامية . واعتقد أن التشابه المصطلحي، أو حتى التداول لمصطلح له مضامينه الفكرية الخاصة ،لا يعدّ محذورا ما دام لمفهومه دلالة أخرى تتسق مع معتقداتنا وثقافتنا الإسلامية ، مثل مصطلح الديوان والفلسفة و الكيمياء وغيرها ،فهذه المصطلحات لا تخلو من معاني مخالفة للمعتقد الديني ،ولكن تحولها المفاهيمي إلى الاستعمال الإسلامي وبالتالي تنقيتها من تلك المخالفات مع بقاء الأسم لم يمنع المؤسسة الشرعية من استعمالها دون حرج إلا من البعض، ثم إن القاعدة الشرعية تؤكد أن العبرة في أحكام الشريعة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني.(انظر : شرح القواعد الفقهية للزرقا ص 55). ومن جهة أخرى لا يعد مصطلح التدبير المدني خارجا عن سياق التداول الإسلامي ،فقد سبق إلى استعماله الإمام ابن رشد في شرحه لسياسة إفلاطون (انظر : كتاب رؤية ابن رشد السياسية للدكتور فريد العليبي الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2007). كما أن هناك عالم أخر تناول هذا المصطلح وهو ابن مسكوية في كتابه تهذيب الاخلاق ،للتدليل ان الكمال الفردي يكون بتهذيب الاخلاق وتحسينها مع احتياج المجتمع للتدبير المدني لحفظ النظام العام من خلال تمسكه بالخلق القويم. والتدبير المدني هو نوع من الفقه السياسي الممارس ضمن سلطة الحاكم أو نوابه في تدبير معاش الخلق ، وإصلاح هذا النوع من الممارسة السياسية بات من ضرورات الحياة المعاصرة ،مع تشعب مجالاتها وتطور اساليبها وضعف السلوك الشمولي في ضبط مناحيها ، مما يحتم تطوير مؤسسة الحكم لتكون أكثر فاعلية في سد الاحتياج والرقابة على المال والإحاطة بالفساد و تحقيق العدالة في كل مجالات الحياة ، وفصل سلطات الحكم ( التشريعية والقضائية والتنفيذية) من التداخل المخل بجودة العدل والرقابة. فهذه المقاصد من التدبير المدني ؛ هي محك البقاء والاستدامة لأي نظام حكمٍ في عالمنا اليوم ، وإي استهانة وتهميش لهذه المقاصد فإن باباً سيكسر دون إغلاق من الفوضى والاحتراب الداخلي وتنامي القمع والاستبداد. والفقه التدبيري للسياسة المعاصرة من حيث تأصيله التشريعي ؛ إما أن يكون مصلحيا جاريا على أعراف الناس وعاداتهم فيدخل في دائرة المقبول ؛ مالم يصادم نص صريحا أو قاعدة كلية، وهذا النوع من التصرفات السياسية كثير في مجال الحكم وإدارة شؤون البلاد ، يقول ابن تيمية : "عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف وليس لذلك حدّ في الشرع". (مجموع الفتاوى 28/68). و أما ماكان منه قائما على تحقيق المقاصد العليا من السياسة ،كالعدل والشورى والأمن وغيرها ، فهو من منارات العمل السياسي ومعالمه الكبرى ،ولا خلاف في اعتباره عند أغلب أمم الأرض على اختلاف أديانهم وثقافاتهم . إلا أن الإشكال -من وجهة نظري- يبقى في الأحكام الشرعية التفصيلية التي فيها دلالة صريحة في الوجوب أو التحريم أو الندب أو الكراهة ، وهي التي جاءت على حال أو ظرف معين ،بتاييد نص من الكتاب أو السنة ،فهذه الأحكام الشرعية الضابطة للفعل السياسي هل هي اصل ثابت باق للعمل بها في كل عصر ومصر ، أما أنها في هذا النوع من الفقه قد تتغير وترجع إلى مدركات النص وعلله ؛وبالتالي تعتبر قابلة للتغيير والتبديل ، مثل ؛ توصيف أهل الحل والعقد ، والخروج على الظالم الجائر ، والبيعة وطرقها ، وشروط الحاكم وسبل اختياره ،و حدود الحسبة على الولاة ،و الأستعانة بغير المسلم في شؤون الحكم ، و وجود ما يخالف الشرع في المواثيق والتحالفات مع غير المسلمين ، وغيرها من مسائل جرت فيها نصوص وأحكام ،وتموضعت في زمان وأحوال غير ما نعيشه هذه الأيام ،فهل إعادة النظر فيها سببٌ للخوف من تضييع الشريعة و لمزها بعدم الاستقرار والثبات مما يفقدها حجية البقاء والصلاحية في كل الأزمان والأحوال ؟ . هذا السؤال يجرّنا لمعرفة أهم المعالم التي تتصف بها أحكام التدبير المدني أو الفقه السياسي ، و ذلك لمعرفة الحكم الثابت والقابل للتغيير حسب مدركات الحاجة الزمانية أو المكانية أو الحالية ، والحكم الباقي الذي لا يجوز المساس به ،ولعلي أوضح هذه الأحكام من خلال المسائل التالية : أولا : أن الحكم الشرعي إنما يؤخذ من كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالقول على الله تعالى والتألي عليه بغير علم أمر محرم وقد حكى الإمام ابن القيم الإجماع على ذلك (انظر : اعلام الموقعين 2/126) ،والناظر في النوازل السياسية بما تحويه من مسائل غامضة وقضايا معقدة تتأكد لديه أهمية استفراغ الوسع في طلب الدليل واستجماع شروط الاجتهاد لمن ينظر فيها ،والتقصير قي ذلك مع القدرة افتراء على أحكام الشرع وتقوّل على الله بغير علم ،فالإدعاء في قضايا السياسة وأحوالها أنها من قبيل القاعدة الثابتة والنص المحكم ،والإفتاء بذلك مُشكلٌ وخطيرٌ تقريره للناس ،وللأسف أن كثيرا ممن تجاسر على الحسم القطعي في المتغير ،ما يلبث أن يخالف فتواه و ينقلب على رأيه دون تبرير مقنع لذلك التحول الغريب. ثانيا: أن الأحكام الشرعية مبنية على تحقيق مصالح الناس وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها .يقول الشيخ ابن سعدي في قواعده : " القاعدة الأولى : الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة"(انظر : القواعد والأصول الجامعة ص 5 ) . والمسائل السياسية مهما اختلفت وتنوعت فإن أحكامها لا بد أن تسير وفق قاعدة الشرع الكلية ،جالبةً لمصلحة ودارئةً لمفسدة ، وتغير الظروف والأزمنة لا يبرر خلاف ذلك . يقول ابن القيم: "فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة ، وإن دخلت فيها بالتأويل" (انظر :اعلام الموقعين 3/11) ثالثا: أن الأحكام الشرعية مبنية على النظر إلى المآل (انظر :الموافقات للشاطبي 5/179) وهناك من المسائل السياسية ما ينبغي بناؤها على هذه القاعدة سدّاً للذريعة أو تحريماً للميل أو منعاً من الغلو أو الوقوع في الشر والفساد وذلك لأن وسائل الحرام تفضي إلى الحرام ، كما أن من القواعد الشرعية؛ تشوّف الشريعة لغلق باب المفاسد أكثر من فتحها لمجالات المصالح ، فالتشديد في قمع الفساد ومحاربة الظلم والاستبداد والتفرد بالسلطة يجري على سنن الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى المفسدة الواقعة في حياة الأفراد أو المجتمع.(انظر: الموافقات 3/85) خامسا: أن الأحكام الشرعية لا تُبنى على الصور النادرة . بل العبرة بالكثير الغالب ولو فُرِض وجود مصلحة عظمى في صورة جزئية فإن حكمة الله سبحانه وتعالى أولى من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل لمصلحة أكبر وأهم،فالنوازل العامة ؛كما في مسائل السياسة العامة قد يُقدَّم حكمها واعتبارها وإن أخل بالمصالح الخاصة أو الجزئية لفرد أو مجموعة. قال ابن العربي: " إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس ؛ فإنه يسقط ، وإذا كان خاصاً لم يعتبر عندنا"(انظر: أحكام القران 3/1306) . سادسا:الأحكام الشرعية نوعان : ثابتة لا تتغير، ولا يجوز الاجتهاد فيها ، ومتغيرة خاضعة لاجتهاد المجتهدين حسب المصلحة وهي تختلف من شخص لآخر ومن مكان لآخر وكثير من أحكام السياسة المعاصرة من هذا النوع . قال ابن القيم: " الأحكام نوعان ، نوع لا يتغير من حالة واحدة ، هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ، ولا اجتهاد الأئمة .كوجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وُضِع عليه . والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له : زماناً ومكاناً وحالاً . كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها ، فإن الشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة" (انظر : إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 1/ 330 , 331). وهذه المعالم العامة لأحكام السياسة الشرعية توضح لنا حسن التأويل لدلالات النص وحسن التنزيل لمعناه في واقع الحياة المتغير ، كما أن إدراك هذه الحقائق يخفف الاستغلال السيء والتوظيف المشين للدين في السياسة ، وتبقى هذه القضايا مثار نقاش و حوار ،لأن الفقه السياسي يحتاج للتبلور والنضوج خصوصا بعد حصول تلك الثورات العربية وما رافقها من جدال كبير حول الشرعية أو عدمها لكثير من أنظمة الحكم والثورات عليها .
 

 

الإسم  
الدولة  
البريد الإلكتروني   
تقييم الموضوع  
التعليق  
رمز التفعيل


 
 
 

د. مسفر بن علي القحطاني