الحرية الدينية عند جون لوك ..مقاربات لخطابات التسامح المعاصرة
د. مسفر بن علي القحطاني
زوار : 1172  -   11/8/2012
 
  تحظى أدبيات مفكري التنوير الأوروبي بقبول واسع لدى الكثير من مثقفي المجتمعات العربية المعاصرة ، وهذه الأدبيات وفق سياقاتها الزمانية والمكانية قامت بأهم مشروع نهضوي في أوروبا ولا تزال مكمن إلهام لمؤسسات الدولة والمجتمع ، واليوم ونحن في مرحلة تغيرات كبرى قيمية وفلسفية باتت هذه الأدبيات التنويرية تخضع لمشرط النقد وأحيانا توضع على مذبح الإقصاء والرمي في سلة مهملات التاريخ ( انظر على سبيل المثال: اطروحات هابرماس الفيلسوف الألماني في كتابه: جدل العلمانية 2007م الذي حاور فيه بابا الفاتيكان ،كذلك له مقال أحدث جدلا واسعا وهو:عصر التحول.وإدغار موران الفيلسوف الفرنسي في كتابه :إلى أين يسير العالم 2009م)، وقد تكون الصدمة أكبر للثقافات الناشئة كحال بعض مثقفي ومؤسسات مجتمعاتنا العربية التي تشربت قبول هذه الأدبيات بعد مرور أكثر من قرنين على إنتاجها ليفرض عليها بعد ذلك التغيير والتشكّل وفق إنموذج جديد مغاير لما سبق من محاكاة واتباع وبعيدا عن الإستقلال والإبداع ، بينما كان المفترض إن تخضع تلك الأدبيات على مُحكَّمات الدين والعقل ومعرفة فوارق المسارات واللوازم التي أدت لنشوء الأفكار في الغرب وجدوى نقلها إلى الشرق.
وتطبيقا لهذا المبدأ أعرض أهم نتاج تلك المرحلة التنويرية لأكثر المفكرين عمقا وتأسيسا لإفكار ما بعد سلطة الكنيسة (الإكلوريس) وهو المفكر الإنجليزي (جون لوك 1632-1704م) من خلال رسالته في التسامح ،واقتصارا عليها دون بقية مؤلفاته الأخرى ،كون هذه الرسالة الأكثر تأثيرا في بيان الحرية الدينية وتحييد السلطة السياسية من التدخل فيها، وسأعتمد على الطبعة التي قام الدكتور عبدالرحمن بدوي بترجمتها و وضع مقدمة نفيسة عن تاريخ التسامح و اللاتسامح المسيحي مع تعليقات و إضافات ضمنها تلك المقدمة ( انظر : مقدمة رسالة في التسامح لبدوي من 7-61 نشر مركز عبدالرحمن بدوي للابداع طبعة 1988م وطبعة المركز 2011م)، وسأعرضها من خلال النقاط التالية :
أولا : ألّف جون لوك رسالتين في التسامح قبل رسالته المشهورة وذلك في الفترة بين عام (1661-1662م) وكانت آراؤه غارقة في تطويع الحرية لحكم الحاكم المدني، وكان يقرر أن مهمة الديانة المسيحية يكون بالقلب لا في السلوك الظاهر ، ولما كانت في القلب فإنها تظل مستورة عن الأعين ولا مكان حينئذ إلا لهيبة الحاكم أن تُرى في الواقع مع اطمئنان العبد على مافي قلبه ولو خالف سلوكه معتقده، كما أنه ضد حرية الضمير والرأي لأنها تدفع للمطالبة بحرية الفعل وهذا يشيع الفوضى والاضطراب ، وكان يرى ضرورة استخدام الحاكم للقوة ضد مطالب الشعب للحرية. وبعد عدة سنوات وبالتحديد في عام 1689م كتب رسالته (المشهورة ) في التسامح التي لم يُكتشف أنه كاتبها إلا قبل شهر واحد من وفاته ، مع العلم أنها تُرجمت في حياته للفرنسية والألمانية والهولندية وانتشرت على نطاق واسع بين الناس، ولكن بدون أسم للمؤلف ولا المترجم ، ويبدو أن لوك لم يشعر بضمانات تكفل إنتشار أفكاره في التسامح الديني داخل انجلترا آنذاك ، لذلك عمد إلى كتمان إسمه وإخفائه عن القراء خشية مصادمة قوى الدين والحكم ، مع إيمانه الكامل بالتسامح وفق رؤيته الخاصة.
ثانيا : الفرق الحقيقي الذي ظهر في رسالته(الاخيرة) في التسامح ، أنه خفف وحدّ من سلطة الحاكم المدني وجعل مجال تدخل الحاكم فيما يؤمِّن السلام المدني و ممتلكات الرعية ، وبالتالي رفض لوك أن يتصرف الحاكم في علاقة الأنسان بدينه و بربه ، وبالتالي يعتبر لوك من أهم من رسم العلاقة بين سلطة الكنيسة والدولة وفصل بينهما بلغة قانونية رائدة،كذلك رفض تدخل الدولة في إكراه أحد على اعتناق عقيدة بعينها ،و رفض تدخل رجال الدين في حياة الناس الخاصة وميولهم الفكرية الحياتية، وقصر دور الكنيسة في الدعوة والوعظ والنصح دون اضطهاد المخالفين ، فهذه الجرأة التي أظهرها لوك في فصل التداخل بين الدولة والكنيسة ، قدّم خلالها نظرته القانونية والعقلانية في الجمع بين مصالح الأطراف الثالثة بإضافة حق الفرد بين تلك المؤسستين.
ثالثا: أن لوك إتجه في رسالته التسامحية إلى تبرير صور عديدة من القمع والاستبداد إما لصالح الدولة وإما لصالح الكنيسة ، خلافا لما يراه الليبراليون المعاصرون في نظرتهم للحرية الدينية ، فهو يرى عدم تسامح الحاكم مع العقائد التي تتنافى مع الاخلاق الطيبة خوفا من اضطراب المجتمع بسببها، ولا يرى ايضا التسامح مع الكنائس التي تحفظ حقوق المهرطقين او لها ولاءات أجنبية ، بل كان اكثر صراحة عندما رفض رفضا قاطعا التسامح مع الكاثوليك ، بحجة أن ولائهم للبابا وهم يتآمرون علنيا على ملك إنجلترا ، وهنا يستثني لوك أعظم طائفة مسيحية لأسباب سياسية وحرب قائمة مع لويس الرابع عشر ملك فرنسا الذي كان يستنصر في حربه ضد ملك إنجلترا بالكاثوليك الأنجليز ، وهذا الموقف الغريب والمناهض لحقوق الملايين النصارى لم يفصّل فيه لوك ليخرج خونة الوطن منه ولم يكتب حينها كفيلسوف مستقل ، بل عمّم كرهه وعدم تسامحه للكاثوليك جميعا ، فالحرية الدينية عند أهم مفكر غربي قعّد للتسامح الديني يعتبر أمرا مخزيا أن يقع في فخ التعصب والإقصاء السياسي ، كذلك يجب أن نعرف أن الحرية الدينية المطلقة كانت شعارا فارغا عن المضمون الحقيقي للحرية ، وكل الدول الغربية من بعد عصر النهضة وحتى اليوم تمارس تحيزا ملحوظا في تطبيق قيم التسامح الديني على جميع الرعايا.
رابعا: الفئة الأخرى التي رفض جون لوك التسامح معها ، كانت فئة الملاحدة ، وقد علل ذلك بقوله :" لا أمان لمن لا يؤمن بالله" ، مع أنه ليس بالضرورة أن يكون الملحد متنكرا للعقود والمواثيق المدنية مع الآخرين ، إلا أنه ينطلق من قاعدة دينية ترفض التسامح مع اللادينيين ، وهذا الموقف هو خلاف ما عليه الكنيسة والدولة المعاصرة ، التي قررت مبدأ الفصل الكلي بينهما ، وأرجعت الدين للحرية الشخصية، واليوم نجد لوك يمثل شاهدا حيا لتأصيل التسامح الديني والليبرالية الفردانية ،لكننا لا نعلم أن هذا المنظِّر للحرية قد خالف أتباعه في إطلاق الحرية دون زمام ، وبغض النظر عن وجود قيود وموانع للحرية ،إلا أن ما يعنينا هنا أن جون لوك لم يكن في تسامحه الديني متحررا عن قيود نزعاته السياسية والدينية ، وأظن أن كثيرا من مفكري التنوير الأوروبي كجان جاك روسو و ديكارت كانت لهم ميولهم الدينية الواضحة التي لم يخالفوا فيها إتجاه الكنيسة رغم ما يعرف عنهم من تقديس للعقل و تهوين لتعاليم الدين.
خامسا : أن الحرية الدينية عند الأديان فضلا عن دعاة الحرية في عصر التنوير الأوروبي هي حرية مسؤولة تحترم مقدسات الآخرين و لا تضطهد أحدا على أساس ديني ، و لكن غالبا ما تضيق هذه الحريات عند نزعات التعصب والإستغلال السياسي التي لم يسلم منها أحد حتى جون لوك كداعية للحرية الفردية ، واليوم للأسف نشهد حربا إعلامية تصف المسلمين بمصادرة حقوق غير المسلمين ونشر التعصب الديني ضد غيرهم ، وهذه الخرافة قامت على تفنيدها عدد من الكتب والدراسات المعمقة دينيا وتاريخيا وبعضها من إعداد مؤلفين غربيين، إلا أن مَشَاهد التطرف والإرهاب القاعدي وغيرها تشكك في هذه الحقائق وتقنع الفرد العادي خصوصا الغربي بأن الإسلام دين القمع والتعصب ضد الآخرين .هذه الشذوذات كما أنها لدى فرق من المسلمين تؤمن بهذا النوع من التطرف ، إلا أن الديانات والثقافات الأخرى لم تسلم منها كذلك ، والمرجع في الحقائق هو لثوابت الفكر ومسلمات الدين المنقول والمعقول دون شبهة. واليوم وفي قلب العالم الإسلامي تتم المنادة بالحرية الدينية المطلقة لممارسة أشد صور الإلحاد الديني ، بطريقة تصدم خيار الأغلبية المطلقة التي تؤمن بالله وتدافع عن مقدساتها بأرواحها ، ولم يقتصر هذا النوع من الإلحاد على ممارسته بالسر كاختيار شخصي ؛بل بإخضاع القوانيين التوافقية على أحترامه وتمكينه في المجتمع ، ولا أظن وفق منطق العقل أن هذا الخيار سيُحترم ويُمرر في بيئة مسلمة أختار مواطنوها هذا الدين كمرجع لشؤون حياتهم ولن يقبلوا هذا الشذوذ بالفرض القهري عليهم تحت دعوى الحرية والتسامح ،لهذا أعتقد أن حرية التدين وعدمه أمر متروك للفرد ،ولكن مطالبة المجتمع باحترام شتم الدين والإله الحق لا شك أنه مرفوض عقلا وشرعا و واقعا.
 
 
 
 

د. سارة بنت عبدالمحسن بن جلوي