|
|
الفكر المقاصدي ..كمدخل لبناء العقل الحضاري
د. مسفر بن علي القحطاني
|
زوار :
1379 -
11/8/2012
|
|
|
برزت مشاريع عدة خلال القرن الماضي لتجديد الفكر الإسلامي وإنهاض قدرته على مواكبة سيل المتغيرات ، والمحطات التاريخية لتلك المشاريع الفكرية قد مُلئت بالأحداث والشخصيات و المناقشات التي أتجهت من أقصى اليمين المتطرف المتمثل في نتاج الفكر الجهادي والتكفيري إلى أقصى اليسار الحداثي الفرانكفوني المتعصب ، وبين هذا وذاك طيف واسع من المشاريع الفكرية التصحيحية ؛المحافظة والتفكيكية ، وكل هذا الإنتاج مع أهميته في رسم خارطة عدد من التغيرات السياسية والمجتمعية التي ظهرت في الخمسينيات والستينيات الميلادية من خلال انقلابات و حكومات عسكرية ؛ إلا أنه لم يحقق من وجهة نظري؛ تطورا مفاهيميا يجدد بنية الأفكار داخل مؤسساتنا الإسلامية بما فيها من منظومات أساسية لا انفكاك لأي مشروع فكري وإصلاحي من تجاوزها كالدين والثقافة والأعراف ، وحتى لا أكون شديد الإغراب في التنظير ،لو قمنا بجرد حسابات الفكر الأشتراكي ، أو العلمانية الصلبة التي تمثلتها مجتمعات عدة كتركيا وتونس، كذا الأفكار القومية والبعثية لوجدنا أنها خرجت كردة فعل حادة و قاسية ،أرغمت الكثير على اعتناقها و التنظير المثالي لها ، أو الصعود الإنتهازي للقفز بها إلى الحكم والسيادة ،ولما تُرك الناس لخياراتهم بعد عقود من الزمن عاد الإنتماء الطبيعي المتجذر للهوية الفردية سواء كانت دينية أو عرفية، واختار الناس بدافع الحرية تلك الأفكار التي يعتقدون أنها تمثلهم وتتلائم مع تصوراتهم الاختيارية ، لذا كانت أغلب أفكار الطلائع ووعود البعث وجنة العلمانية مجرد أوهام تلاشت مع أول يقظة طبيعية عاشها المجتمع العربي دون تهديد أو إجبار .
وبناء على هذه المقدمة غير المسلّمة عند البعض، لكننا نجد أنفسنا أمام مسلّمة تاريخية تنبأ عن حقبة جديدة ، أو استقلالٍ ثانٍ لعدد من الدول العربية دون إملاءات و تخويفات ، مما يكرر على أذهاننا ذات السؤال المتجدد ، هل لدينا مشروعات تلبي حاجة العصر وتتوافق مع هوية المجتمع و مرجعيته الإسلامية كما ظهر من أختيار أكثر هذه الشعوب بعد عن أفرزت النتائج عن ميولهم ورغباتهم المتمثلة في برلمانات ومؤسسات جديدة للحكم وإدارة البلاد ، هذا السؤال الكبير بدأ يُطرح عمليا من خلال عدة جهات و بأسباب متنوعة ، كالجدل الحاصل حول تذبذب المواقف لدى بعض الحركات الإسلامية وكأنها تعيش تيهاً عن المسار الأمثل لها ، مثل الإنقسامات داخل التيارات السلفية بعد إقرارها الدخول في المعترك السياسي ، كذلك من الأسباب الهامة التي دعت لطرح سؤال التجديد الخطابي والبنيوي ؛ بحث الشباب العربي عن أفكار جوهرية تقودهم نحو فعل إصلاحي تقدمي يشعرون فيه بالتغيير ، بعدما تخلى الكثير عن إلتفافهم الرمزي لعدد من الشخصيات الوعظية المفرِّغة للشحنات العاطفية والمكبلة في آنٍ واحد قدرتهم على الحركة والتأثير بسبب غياب الرؤية لدى أولئك الرموز في تحديد الخطوة التالية التي تنتظرها تلك الجموع ، فالطاقات الشبابية لم تصرف في مشاريع التنمية والتعليم و التوعية المجتمعية وغيرها، وبالتالي بدأول يبحثون عن بدائل ملهمة للنهوض، أضيف إلى ذلك ضعف الساحة الفكرية بالمشاريع التجديدية الرائدة على غرار ما كتبه جيل النهضة في آوائل القرن الماضي مثل الطهطاوي والأفغاني وخير الدين التونسي محمد عبده ورشيد رضا و حسن البنا والطاهر ابن عاشور والفاسي مع تفاوت تاريخي بينهم إلا أن الأثر الفكري والإصلاحي قد أثر على بنية العقل الإسلامي بشكل واضح .
وعودا على ما بدأته من سؤال حضاري بضرورة خلق مشاريع فكرية تجدد بنية العقل المسلم وتعيد الروح لفهم حاجات العصر ومواكبة حركة المجتمعات التي لا تنتظر التباطئ أو التراجع للوراء ، يبقى هذا السؤال الحضاري اليوم يشكّل واجب الوقت ،كضرورة معاصرة لفهم الغياب الاختياري عن ممارسة المجتمعات الإسلامية هذا الدور، وإلا كان الخيار في استلهام تجارب أجنبية نافرة تعيدنا للمربع الأول، ورؤيتي لملامح هذا المشروع الفكري ، تأتي من خلال إحتوائه على ثلاث مسلَّمات قد تكون ضرورة شرطية للنجاح، وهي :
أولا: شرط التسيّد؛ بمعنى حصول المشروع على عناية قصوى من الأهتمام ،كأن يكون ضمن كليات الدين أو ضرورات الحياة ،وبالتالي يظهر هذا المشروع لدى الفرد والمجتمع على منصة السيادة المقدّرة للإمتثال ، ولا يختلف عليه في الغالب أحد .
وثانيا : هو شرط التعقّل ،بمعنى إدراك العقل المجرد دون تسيّيس أو تمذهب ؛جدواه العقلية وأهميته الواقعية،ولا يحتاج صاحب هذا المشروع إلى تكرار ومعاودة الإثبات بأهميته للتطبيق.
وثالث هذه الشروط:هو التخلّق ؛ بمعنى وضوح الغاية والوسيلة الأخلاقية في هذا المشروع ، وتوافقها مع مسلّمات وأعراف المجتمع السلوكية ، وجود ثمرة أخلاقية يلمسها الجميع.
وهذه المعالم والشروط الوضعية لقبول المشروع التجديدي ،تعتبر في غاية الأهمية ،ولكنها قد تصبح نوعا من المثالية الحالمة التي يصعب وجودها في الواقع ، وهذا الاحتمال يزول بعد استقراء الواقع الديني لنجد توافقا على إمكانية أن تقوم مقاصد الشريعة بهذا الدور الإحيائي وبقدرة فائقة ،وذلك لعدة أسباب منها :
أولا:قدرة مقاصد الشريعة على نَظم أهم معايير الإصلاح الإنساني والمتعلق بإصلاح التفكير العقلي والعقائدي، وإصلاح التعبير القولي والفعلي المتمظهر في السلوك والأخلاق، و إصلاح التدبير المعاشي المراعي للنظم الحياتية والإحتياجات المصلحية ، كل ذلك ينتظم في سياق واحد متكامل البنية ومتوافق مع متطلبات العصر ، وهو ما عُبِّر عنه بالضرورات الخمس القائمة على حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال.
ثانيا: أظهرت المقاصد نجاحا تاريخيا تجديديا، نقلت الفكر والفقه من تعقيدات الفقهاء وخلافاتهم مع الخصوم، وهيمنة التصورات الشخصية على بعض مفردات الشريعة ، نحو طور جديد حقق وئاما و أئتلافا جمع الأمة في بعض اللحظات الحرجة من الفرقة والضعف ، فمشروع الإمام الشافعي في وضع قواعد الإستدلال ورسم خارطة الإجتهاد الفقهي ،كان بمثابة رباط جامع للمدارس التي بدأت تتنافر لغياب تلك القواعد الجامعة ،فعملية إظهار معالم الإستدلال هو نزوع نحو الكليات وردّ للمقاصد يوجّه الأمة نحو الوحدة ، ومثله قام الغزالي في إحياء علوم الدين بإظهار مقاصد العلوم من خلال إحياء القلوب وتزكيتها كونها ثمرة العلم ونتاج المعرفة ، وكذا فعل ابن تيمية في تطهير علم الكلام من تخيلات الفلاسفة وفرضياتهم نحو جوامع وكليات طريقة السلف في فهم نصوص العقائد، ولا يخفى دور الشاطبي في إكمال منهج الشافعي برسم معالم أعلى تظهر على الفروع والأصول من خلال كتابه الموافقات بالرد إلى مقاصد الشريعة العليا كمنهج نظر وترجيح عند الإختلاف والتعارض.كل ما سبق من تجارب مقاصدية كان لها دورا إحيائيا و تجديديا لبنية الفكر بعدما تقوقع العقل الحضاري في التقليد وانغمس في جدل الخلافات.
ثالثا:تمتاز مقاصد الشريعة أنها منضبطة في التصور العام عند الردّ إليها ، لأنها قواعد كلية وغايات إنسانية ومصالح عامة ، ولكنها كتبت بطريقة فقهية قانونية صارمة ،تمنع التماهي نحو الحظوظ والأهواء الخاصة ،لذلك اعتبر الفقهاء شروطا لصحة المقصد والإعتماد عليه بأن يتصف برباعية الطاهر ابن عاشور وهي:الظهور والثبات و الإنضباط والإطراد . (انظر :مقاصد الشريعة الاسلامية 50-52 طبعة الشركة التونسية للتوزيع 1978م )
وبناءً على ماسبق ، أعتقد أن الفكر المقاصدي كما قال الريسوني في تعريف معناه:"هو الفكر المتبصر بالمقاصد ،المعتمد على على قواعدها المستثمر لفوائدها" (الفكر المقاصدي 35من منشورات جريدة الزمن 2000م) ،قادرٌ في ظروفنا المعاصرة ،أن يشعل شموعا عدة ترسم طريق التجديد في مجال العمل الفقهي لتحرره من قيود التقليد الذي خيّم على التصنيف الفقهي منذ قرون و تمنحه روح التعليل للأحكام وحسن التنزيل للنصوص في كل ما يستجد في الكون المعاصر.
كما أن الفكر المقاصدي قد يحرك الراكد في خطابنا الإسلامي التبليغي ليكون أكثر مواكبة لمتغيرات العالم وانفتاحه على بعض ، وتعلو لغته لتكون سمع الجميع فيفهمها الموافق والمخالف ، مع تخفيف النزوع نحو المثاليات الحالمة إلى حلول واقعية وبدائل تطبيقية.
ولن يقف دور الفكر المقاصدي من وجهة نظري عن تطوير المجال السياسي والإجتماعي والاقتصادي المعاصر وتقديم المعالجات لكل الأزمات ، والشواهد في ذلك كثيرة ، ولعل ما سبق أن يثير الفكر نحو مزيد من تسليط الضوء على هذا الكنز الفكري المودع في تراثنا (انظر: كتاب :نحو تفعيل مقاصد الشريعة لجمال الدين عطية 169-269 طبعة المعهد العالمي للفكر الإسلامي 2008م . وكتابي:الوعي المقاصدي ،طبعة الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2009م) ، وهذه النظرية لا تزال في حاجة متزايدة لنفض غبار الزمان عنها ،فقد يكون لبريقها هداية وإرشاد لمن حارت به الطرق وتكاثرت عليه السبل ؛أن يستلهم منها المخرج نحو النور والضياء.
|
|
|
|
|
|
|