|
|
سيادة الأمة في سياق النظر المقاصدي مسفر بن علي القحطاني
د. مسفر بن علي القحطاني
|
زوار :
1785 -
9/3/2013
|
|
|
سيادة الأمة في سياق النظر المقاصدي
مسفر بن علي القحطاني
بعد الربيع العربي برز مفهوم سيادة الأمة إلى السطح وبشكل سجالي ينذر بخلاف حقيقي بين التيارات الإسلامية خصوصا التي استطاعت الوصول إلى سدة الحكم في بعض الدول العربية ، و برز هذا الجدل الفقهي وأحيانا العقدي نتيجةً لغموض مفهوم مدنية الدولة و طبيعة السلطة فيها ، بالإضافة إلى إشكالية الموائمة بين الشريعة و حق الشعب في اختيار حكومته المنتخبة ،وما يترتب على هذه السيادة الشعبية من التصويت الحر لأي القوانيين يخضعون ، وفي حال افترضنا اختيار الشعب لغير الشريعة في بلد إسلامي، فهل يعتبر هذا الخيار حقا للأمة تُمكّن من تنفيذه ، أو أنها ستخرج عن إسلاميتها بتحكيمها قوانين لم ينزلها الله تعالى ؟.
وأعتقد أن هذا الجدل الذي لم يجف مداده بعد ، عادةً ما يتم تناوله من وجهتين متباينتين ،الأولى ؛ تنظر من زاوية أن لا حكم لمجتمع مسلم إلا بالشرع المنزّل، ومن يختار غيره فقد خرج عن الشريعة إلى غيرها ، و الوجهة الأخرى ، من تنظر إلى حق الشعب في اختيار ما يريده دون إكراه بغض النظر عن نوع الإختيار ؛ ولو أستبعد الشريعة الإسلامية بغيرها.
وأظن أن هناك تفصيلات ولوازم تجعل الرأيين غير واقعيين عند التطبيق في مجتمع غالبه من المسلمين، فمن يرى لزوم سيادة تطبيق الشريعة حال حكمه ،سيعجز في اي النماذج الفقهية الكثيرة يحسن أختياره للتطبيق ؟وهل يحق له أن يفرض على الناس بعض المندوبات أو الواجبات الظنية الخلافية التي تمثّل تميزه الحركي كحزب إسلامي ؟ و لو فعل ؛ لكان إلزاماً بما لم تلزم به الشريعة ، فتبقى حينئذ دائرة الفرائض القطعية وهي ضيقة بالنظر للاحتياجات التشريعية المتنوعة ؟ و لهذا نسأل أصحاب هذا الإتجاه ؛هل سيجتهدون عقليا ومصلحيا في تنظيم شؤون الدولة السياسية والاقتصادية و المدنية لتغطية احتياجات الواقع الملحّة ؟ وإذا فعل ذلك ولابد ، فإن نسبة كبيرة من تشريعاته سوف تكون بشرية محضة على أصل (أنت أعلم بأمور دنياكم ) فتنحصر حينئذ مناداته بالشريعة في دائرة ضيقة مما جاءت به النصوص في الشأن العام لأن الشأن الخاص للأفراد؛ لا دخل للدولة فيه ؟.
ومن جهة أخرى نجد أن من غلّب حرية اختيار الشعب لتطبيق ما يريده بالاقتراع ، تلحقه إشكالات نظرية وعملية في التطبيق ؛فالشعوب الإسلامية غالبها يمتثل أفرادها بالتمسك الذاتي بالشريعة ، فالتصويت لن يشمل مجالات الفرض التشريعي المطالب به المسلم في عباداته أو كفّه عن المحرمات الكبيرة ، كما أن الخيار لن يشمل هوية المجتمع الرئيسة المتمثلة بدينه وثقافته ولغته ،كما جرت على ذلك أغلب الديمقراطيات الحديثة ، لهذا أرى أن التنازع في مرجعية الأمة وسيادتها على الشريعة بين الفريقين الذين ذكرتهما تتجه إلى التوافق في كثير منها ، وينحصر الخلاف في صور واقعية كانت هي شرارة الجدل بينهما والمتعلقة ببيع الخمور و العري على الشواطيء و وجود المصارف الربوية وغيرها ، فالفريق الأول لا شك أنه سيمنع تلك الممارسات مباشرة ،بينما الفريق الأخرى سيجعلها ضمن الأطر الديمقراطية الخاضعة للتصويت والأختيار الشعبي أو من يمثلهم بالبرلمان ، وبالتالي هل نعتبر هذا العمل الأخير مشروعا ؟ والجواب أن الإبقاء على المنكرات حتى يختار الشعب إزالتها بفرض القانون لا يعني إباحتها ، وكون الشعب إختار إبقائها دون تغيير يعني كذلك أن الشعب يحتاج إلى توعية وتعليم ليقتنع أولا بترك هذه المنكرات و التوبة منها ، وهذه الفترة من الانتظار لا تعني الرضا بالمنكر بل هو من باب التدرج في التغيير دون إكراه ، وسنة التدرج التشريعي ثابتة في عدد من نصوص الكتاب والسنة في الخمر والربا وغيرها . وبالتالي المؤدى العملي يتجه نحو التوافق على تطبيق الشريعة في النهاية بالرغم من شناعة المخالفة في البداية،كما أن العمل لدى الفريقين له اعتبار في اجتهادات عدد من العلماء المعاصرين والمسوغات في ذلك كثيرة .
ومن وجهة نظري في هذا السجال أن هناك إشكاليات أكبر في حديثنا عن سيادة الأمة تتجاوز الجانب التفصيلي الذي ذكرته في واحدة من صورها الواقعية ، ولعلي أشير إلى هذه الإشكالات في النقاط التالية:
أولا : نحتاج إلى تقرير مدى إنطباق قاعدة (سيادة الأمة) بمفهومها العام على مقاصد الشريعة ، إلا أن هذا التقرير يصطدم بأن هذه القاعدة من أهم أركان العمل الديمقراطي المعاصر المستورد من الفكر الغربي، حيث تقوم كل الأنظمة الديمقراطية على أساس فكري واحد، وهو أن السلطة ترجع إلى الشعب وأنه هو صاحب السيادة، أي أن الديمقراطية في النهاية هى مبدأ السيادة الشعبية. (انظر : موسوعة السياسة،إعداد د. عبدالوهاب الكيالي، 2 /756).
فالسيادة مرجعية عليا والفقه الدستوري يجعل الدولة هي المهيمن على الأفراد والهيئات التي تحت أقليمها ، و الحقيقة أن هناك خلط بين السلطة السياسية والسيادة ،إذ السيادة صفة للسلطة، كما أن الحديث عن السلطة ينبغي أن يكون مجردا عن الأشخاص الذين يمارسونها ، فالحكام يتمتعون بهذا الحق بصفة مؤقتة أثناء شغل المنصب ولا يصبحون بذواتهم أساس السلطة ودائمة بهم وكأنهم هم الدولة والدولة اصطبغت بهم .( انظر :القانون الدستوري والنظم السياسية ، د.ابراهيم شيحا 1/236) . فنظرية سيادة الأمة توازيها نظرية أخرى هي سيادة الشعب وبينهما فروق دستورية ، وعادة ما نخلط بينهما في التعبير ، ولعل الغالب سيادة الشعب فهو الأكثر واقعية و الأوسع تطبيقا ، ومع أن هذا المبدأ يُعمل به في أكثر دول العالم إلا أنه أكثر الأفكار القانونية إثارةً للجدل والخلاف في الفقه السياسي الوضعي ؛كما قال الدكتور ابراهيم شيحا. ( المرجع السابق 1/238). وبما أننا أمام نظريات تنمو وتتطور وتتشكل وفق حاجات المجتمعات ، فلا نعطيها صفة الثبوت المطرد في مفاهيمها ،وإن اطردت في تطبيقها بنماذج متعددة .
ثانيا : وبناء على ماسبق وما تكرر السؤال عنه ؛هل تعتبر سيادة الأمة من مقاصد الشريعة ؟، وقبل أن نقرر ذلك أيضا ، يجب أن نحرر الخلاف الفقهي في هذه السيادة ، إذ يُشكل أنها منازعة لسيادة الشريعة ، وقد ناقشت ذلك واقعيا في المقدمة أما نظريا ، فالله تعالى مصدر السلطات ، والسيادة المطلقة هي للحق سبحانه وتعالى ،كما جاء في الآية "والله يحكم لامُعَقِّبَ لحكمه" [الرعد 41]، وقال تعالى "إن الله يحكم مايريد" [المائدة 1]. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "السيد الله تبارك وتعالى"[ رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه، وإسناده صحيح]. و من هنا يتقرر أن معتقد المسلم الذي آمن بالله تعالى يجب أن يصدّق بمرجعية الوحي في كل حياته لقوله تعالى :" فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [ النساء 65] ، وهذه السيادة هي لله تعالى في منطوق الوحي ومفهومه القطعي، أما إذا دخل معاني النص الاجتهادات والتأويلات فيمكن أن نبحث عند التطبيق في الشأن العام عن ألية الترجيح بين تلك التفسيرات ، التي قد يفصل فيها أهل العلم ، وأحيانا يفصل فيها من أختارهم الشعب في الحكم .بناء على قاعدة " حكم الحاكم يرفع الخلاف " بما لا يُنقض فيه الحكم من الاجتهادات . ( انظر: المنثور في القواعد للزركشي 2/59) .
ثالثا: أن الجمع بين مبدأ سيادة الأمة وسيادة الشريعة يمكن تحققه دون التباس ،إذا قدّرنا أن المرجعية العليا في الإلزام والأحكام للشرع ،فإن المرجعية في الحكم والتنزيل والتطبيق هي للأمة بمجموعها وليس لفرد الحاكم ، ومن هنا يحسن أن نفرق بين مصدر السلطة السياسية ومصدر النظام القانوني ، فالسلطة السياسية مصدرها الأمة ، والنظام القانوني مصدره الشرع ، فإذا كانت الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع ، فإن السلطة في التولية والرقابة والعزل للحاكم السياسي هو لمجموع الأمة ، ولهم في إطار سيادة الشريعة مطلق الحق في ذلك لا ينازعهم فيه إلا ظلوم ، ولا يسلبه منها إلا مستبد مراغم لمقاصد الشريعة.
رابعا:وهو المتعلق بالأدبيات الإسلامية في دور الأمة وسلطتها ، والمتأمل في الفقه السياسي يلحظ بوضوح مدى تهميش دور الأمة وتخفيف تأثيره المدني ، بل نجد نعوتا لا تليق تصف الأمة بالغوغاء والدهماء و العامة وغيرها على وجه التنقص، مع أن الرحمة في النصوص لمجموع الأمة وأنها لا تجتمع على ضلالة ، و أنها مرجع الشرعية للإمام ، ( انظر : مراجعات في الفكر الإسلامي للدكتور عبدالمجيد النجار 365) ويؤكد هذا المقام عدد من النصوص والإيضاحات لكبار الصحابة ، مثل قول عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بلغني أن قائلاً منكم يقول والله لو مات عمر لبايعت فلاناً، فلا يفرق امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلته فتمت ، إلا أنها قد كانت كذلك ولكن وقى الله شرها ، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا" ( صحيح البخاري 6829) .و ما قاله علي رضي الله عنه عندما اجتمع إليه الناس في بيته وأرادوا أن يعقدوا له البيعة فقال :" إن بيعتي لا تكون خفية . ولا تكون إلا في المسجد" . فحضر الناس إلى المسجد ثم جاء علي فصعد المنبر وقال : "أيها الناس عن ملأ وأذن إن هذا أمركم ليس لأحد من حق إلا من أمرتم ، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ، ألا أن ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي ، وليس لي أن آخذ درهماً دونكم ، فإن شئت قعدت لكم وإلا فلا آخذ على أحد "، فقالوا : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس : اللهم اشهد ، فبايعه طلحة والزبير وقال لهما :"إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما؟ " فقالا : بل نبايعك فبايعاه ثم بايعه الناس" ( الكامل في التاريخ 2/24).
وقد استقر في فقه السياسة الشرعية أن الإمامة تنعقد بأحد وجهين : الاختيار من أهل الحل والعقد أو العهد من الإمام السابق ، وإذا كان العهد عند المحققين لا يعدو أن يكون ترشيحاً يفوض الأمر في إمضائه أو الغائه إلى الأمة فقد آل أمر الإمامة إلى طريق واحد لا تنعقد انعقاداً شرعياً بغيره وهو الاختيار بواسطة أهل الحل والعقد ، فتمهد من ذلك أن السلطة في ذلك إلى الأمة لا غير .
خامسا: يظهر مما سبق ان سيادة الأمة يمكن إعتبارها من مقاصد الشريعة الجزئية إذ متعلقها هو أبواب السياسة وتراتيبها الإدارية ، ويظهر مقصود الشرع في تحقيقها للعدالة ومنعها لظلم السلطان و إشراكها الأمة في الرقابة والمحاسبة لمن تعدى وبغى في صلاحيته الممنوحة من الأمة ، وفي عصرنا الحاضر أضحى هذا الدور أكثر فاعلية و آكد في نجاحه على مستوى تحقيق الحريات و إقامة الحدود والمصالح المجتمعية ، وترك الأمر لفرد الحاكم بمنحه مطلق السلطة قد يغري بالإستبداد و الإنحراف عن غايات الولاية . والأصوليون قد قرروا أن شروط تحقق المقصد واعتباره يحصل في ثلاثة أمور :الظهور والثبات و العموم ، واعتقد أنه يتحقق في غايات سيادة الأمة .
هذه الفكرة بالرغم من أهميتها لم تنضج في الفقه السياسي الشرعي مع تطورها النظري في الفقه الدستوري الوضعي ، لذلك هي محاولة لتطوير هذه النظرية ، وتخفيف المفاصلة الشديدة بين دور الأمة ودور الشريعة و إفتراض أن سيادة الأمة هي قرين الكفر والخروج عن الملة . ولعل بوادر النضح لهذه المفاهيم تأتي من حسن رعاية التنزيل بقيام الحكومات العربية الصاعدة بعد ثورات الربيع العربي بتقديم الأنموذج الصالح لها .
|
|
|
|
|
|
|