المثقف الخليجي ..وسؤال الاصلاح المدني
د. مسفر بن علي القحطاني
زوار : 3475  -   17/03/2014
 
  المثقف الخليجي ..وسؤال الاصلاح المدني مسفر بن علي القحطاني المثقف في عصرنا الراهن مصطلح واسع ومائع يمكن أن يدخل فيه الجميع كلقب، ويمكن أن يخرج منه الجميع كفعلٍ وأثر ، وفي واقعنا الخليجي يبرز دور المثقف كلاعب مهم في إدارة دفّة الكثير من الأزمات التي يعيشها المجتمع،تنظيرا وتقريرا وتثويرا وتبريرا لكافة الممارسات التي تُطرح كخيارات لمستقبل المنطقة،وهذا ما دعاني لكتابة هذا المقال كمحاولة لفهم تلك الموجات التي تتشكل في خليجنا الهادئ ،وتعظم وتتنامى بصعود أعداد من المثقفين إعتلوا تلك الموجات دون أن يشعروا بخطر نهايتها، والذي قد يكون ارتطاما مفزعا على صخرة شاطئ لم يشعروا بها وقت جني المغانم أو تصفيق المعجبين أو مكر المنتهزين ، وبالتالي قد يُصدم بعض أولئك المثقفين وجمهورهم التابع عندما يعلموا أن المحفّز الأخلاقي والقيمي في البداية لم يكن هو المنتَج في النهاية. والمتابع لأوضاعنا المحلية يجد توجه أنظار الكثير من المحللين السياسيين نحو دول الخليج العربي مع ترقّب وتأهّب حصول تغيرات جوهرية في النظم والسياسات المتبعة في تلك الدول ، ولعل إدمان مسلسل الثورات العربية جعل المشاهد والمتابع للحالة السياسية في انتظار ما قد يحدث من جديد ثوري يشعل الإثارة نحو متابعة المزيد من الأحداث الدراماتيكية التي لم يوجد لها سابق تاريخي على الأقل في ذاكرة جيلين او ثلاثة ، ولست بصدد التعليق على تلك الحالة من الناحية السياسية ولكن تداخل المواقف والأحداث وتلبّس الديني والثقافي بالعباءة السياسية يجعل الحديث متشعبا وداعياً للقلق من تغوّل تلك المفردة (السياسة الانتهازية) ضمن سياق المشهد الخليجي القائم . وبوضوح أكثر استطيع أن أتلمس وجود تيارين ثقافيين هما الأبرز ظهورا على موجات المشهد الخليجي ، فالتيار الأول تيار إصلاحي يطالب بالتغيير السلمي المتدرج ، ويريد دورا أكبر في المشاركة السياسية و يناضل من أجل حرية أوسع للتعبير والرأي ،وحياة معيشية عادلة تتسق مع الدخل النفطي لتلك الدول ، كما أنه يحظى باهتمام الشباب المثقف بشكل واضح ،و مطالب هذا التيار هي حقوق مشروعة تتحدث عنها جميع شرائح المجتمع وتتهامس بها في مجالسها الخاصة وأحيانا العامة، ولم يعد هناك سرّ يخفى مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا التيار ينتابه محذورين ، أولهما أن لغة المطالبة لم تتكيف مع طبيعة اللهجة الخليجية الخاصة ، فما حدث في ميدان التحرير بالقاهرة وشارع بورقيبة في تونس وساحة التغيير في صنعاء لا يمكن استنساخه في الخليج ، فطبيعة العلاقة التي ارتسمت منذ عقود بين الحاكم والمحكوم ترفض لغة المراغمة والمعاندة ،ومحاولة تغيرها ستعني تغير طبيعة العلاقة بصورة لابد فيها من رفض أحد طرفي المعادلة ،ولا أظن ان بلوغ هذا القدر من المواجهة هو مطلب إصلاحي يستسيغه المواطن الخليجي المعاصر. والمحذور الثاني في مطالب التيار الإصلاحي أنه يرتفع فوق موجة ينادى فيها بالإصلاح بينما أسفل الموجة والدافع الباعث لها قد يكون مغايرا لمطلب الإصلاح التوافقي والتكاملي مع السلطة ؛ فربما يتجه أصحاب هذا التيار نحو تغيير جذري يغير جغرافية المنطقة ويضع معادلات قوى مختلفة ،قد تتحول إلى مهدّدات فعلية لسِلْم المنطقة وهويتها التاريخية، وهذا المحذور له دلائله التي تظهر من توسع النفوذ الايراني وجيوبه الخليجية في محاولة لخلق تحالفات طائفية تطوق المنطقة من جميع الجهات، دون ان ننسى الدور الامريكي المريب الذي يريد ضمان تدفق النفط وأمن إسرائيل ومصالح أعمق تنقذ أزماته الاقتصادية من خلال شركاء جدد وصفقات جديدة لأزمات مفتعلة. لذلك ينبغي التحوط قدر المستطاع لأجل فهم اللعبة الدولية واستحضارها في طرح المشروعات الاصلاحية، فإغفال وجود مؤامرة خارجية تهيج المجتمع وتحرك المارد الشعبي أعتقد أنه سطحية في الفكر لا تليق بدعاة الاصلاح الغيورين على مستقبل بلادهم، فالتوافق مع الآخر في بعض المقدمات السببية لا يعني أن النتائج المرجوة صحيحة؛ هذا إذا لم تعط نتائج مغايرة تماما. أما التيار الثاني في المشهد الخليجي ، فهو التيار المحافظ على بنية السلطة والمقاوم لكل أشكال التغيير ،مع دعوته إلى تنمية اقتصادية تكفل للفرد العيش الرغيد دون مطالبات حقوقية وسياسية، وهذا التيار مع عمقه الفكري و تخوّفه الواقعي ،إلا أنه قد يقع في محاذير أخرى يمكن أجمالها في محذورين ،الأول ،أن مبالغة هذا التيار في المحافظة على الواقع السياسي للخليج دون أية اصلاحات بالرغم من كل المحركات الدافعة للتغير التي يعيشها العالم العربي ، هو من قبيل الدفع اتجاه المفاصلة بين آمال إصلاحية تزداد توسعا بين كافة الشرائح الاجتماعية وبين سياسي مقتنع للغاية بأن تلك المطالبات خطر على ديمومة الحكم وسبب للفوضى ،كما يسوّغ هذا التيار للعقل الأمني أن يوقف ويعتقل ويتعامل بالريبة الدائمة مع هذه المطالبات ،وهذا الخيار غالبا ما يكون مكلفا من الناحية المادية والمعنوية، ودافعا نحو المزيد من التشنج والتوتر الذي ينقلب في صالح التيار الإصلاحي الشعبي وتخسر الدولة ولاء المجتمع لها بسبب تلك الممارسات الإرغامية . أما المحذور الآخر في مسار هذا التيار ، أنه يحارب بدهيات العقل وسنن الحياة دون أن يشعر بما يقوم به من فعل أو قد يظن أن يُحسن للأنظمة ، فهو يفرّق بين المواطن المصري والسوري والليبي الذين اندفعوا نحو الثورة ، وبين الإنسان الخليجي الآمن والمستقر معاشيا والمحافظ دينيا ، وهذه كلها معطيات وفوارق صحيحة ولكن الخليجي كغيره من البشر لا يختلف عن سكان الأرض في حبه للحرية و طلبه لحقوقه ورغبته في المشاركة التكاملية مع السلطة ،وهذا ما يجعل هناك صدام قد يأخذ الطابع الفكري أو الديني بأن الحرية والديمقراطية من الخرافات والمؤمرات المحرمة على العقل الخليجي، وهذا ما يزيد الشق بين المواطن ودولته بسبب تلك المعالجات الخاطئة. ولعلي في هذا المقام أن أحدد أهم المعالم التي يمكنها أن تقدم رؤية ومخرج لأزمة قد تكون قريبة بسبب حركة التيارين نحو إثبات المصداقية و فرض الواقعية لصحة ما يدعو له كل فريق من مطالب ، يمكن إجازها في النقاط التالية: أولا : إن دول الخليج العربي لها خصوصية لم تستغلها منذ زمن وهي في موقعها الجغرافي و تراثها الواحد وهويتها الجامعة و الوفرة الاقتصادية الجيدة ،وطبيعة الحكم المنبثق من داخل المجتمع والمتوافق مع كل المكونات السكانية، والمتوراث وفق نمط يحفظ للأسر الحاكمة حق الإدارة وللشعب حق الشراكة في السلطات الأخرى، وما حدث في فترات سابقة من تباينات وخلافات هي وليد السياسة و رغبة البعض في زيادة النفوذ ،ولا أظنها أصبحت مصدرا للقلق في عصر التحالفات والذوبان في اتحادات تؤمّن المستقبل وتضمن الاستمرار في الحكم ، وهذا المعطى المتعلق بالموازنة المصلحية والأولوية التي تمليها ظروف الحال والزمان يجب أن تراعى ضمن أجندة كل التيارات ، فالتغيير الذي سيعرّض هذا الجسم التكاملي للتشظي والتباعد أو يريد الثورة لذاتها دون مقاصدها هو تغيير مُكلِف يؤجج حالة من التصارع نحن في غنى عنها ، ومكاسبها خاسرة وقبائل المنطقة حاضرة ستعيد مشهد الجاهلية الأولى وفق قول شاعرهم:( وعلى بكر أخينا إن لم نجد إلا أخانا). ثانيا: دور المثقف الخليجي وما يدخل ضمن مجالهم التأثيري من دعاة و فقهاء ،عليهم مسؤولية كبرى في هذه الأوقات، ولهم دور قيمي وريادي كبير يتجاوز إثبات المواقف الآنية إلى تحقيق المصالح الآنية والمآلية للفرد والدولة ، وهو موقف يجب أن تظهر فيه أهداف الوطن وغاياته فوق كل الأطماع والمكاسب الفردية العاجلة ،كما يجب أن تظهر فيه المصارحة وبذل النصح للمجتمع والدولة وتجلية الحق لهما خصوصا وقت المحن، ولعل ما قاله إدوارد سعيد في وصف المثقف المعاصر قد ينطبق على عدد ليس بالقليل من مثقفي الخليج حيث قال :" لا شيء في نظري يستحق التوبيخ أكثر من تلك الطباع الذهنية للمثقف, التي تغري بتجنب المخاطر, أي الابتعاد عن موقف صعب ومبدئي تدرك أنه الصحيح ولكنك تقرر ألا تتخذه. وأنت -والكلام لسعيد- لا تريد الظهور في مظهر المنغمس جداً في السياسة, وتخشى من أن تبدو مولعاً بالجدل, وتحتاج إلى موافقة مدير أو شخص ذي سلطة, وتريد الاحتفاظ بسمعة حسنة كإنسان متزن وموضعي ومعتدل, وتأمل أن تدعى مرة أخرى وتستشار, وتكون عضواً في مجلس إدارة أو لجنة لها مقامها, وبالتالي أن تظل في نطاق الاتجاه السائد الذي يعول عليه, وتأمل يوماً أن تحصل على شهادة مغرية, أو غنيمة كبرى, لا بل حتى على منصب سفير. إن هذه الطباع الذهنية -كما يضيف سعيد- هي العامل الأبرز دون منازع لإفساد المثقف , وإذا كان في وسع أي شيء أن يمسخ حياة فكرية متقدة , ويقضي على تأثيرها, وفي نهاية الأمر يقتلها ,فلسوف يكون دمج مثل هذه الطباع وترسيخها في النفس."( كتاب صور المثقف 104) أما المفكر علي شريعتي فهو يهيب بالمثقف أن يتولى منصبا أكثر ريادة في المجتمع حيث يقول :" إنّ مسؤولية المثقف في زمانه هي القيام بالنبوّة في مجتمعه ، حيث لا يكون نبي ، ونقل الرسالة للجماهير ، ومواصلة النداء ، نداء الوعي والإخلاص والإنقاذ في آذان الجماهير" (العودة إلى الذات ص376 بتصرف) . وأظن هذا الموقف المثالي من المثقف المعاصر هو مطمح نرجوه ،ولكن قد لا يتحقق في الواقع المشهود ،وإذا لم يحصل فلا أقل أن يصمت إذا لم يستطع النصح الواجب والتوجيه السديد المنقذ لبلده ومجتمعه والذي يعلمه يقينا و يرواغ في قوله خشية فوات مغنم أو حظٍ دنيوي . ثالثا: أن الإصلاح اليوم في الخليج يتعرض للتشويه والاختلال بسبب موقف السلطة السياسية المتحذر من مآلاته والقلق من موقف بعض المثقفين التصعيدين المستجبين لإغراءات السلطة أو من يريد أن يكون بطلا للجماهير، وهذه الحالة من الضبابية والشكوك التي أطّرت العلاقة بين هذين العنصرين المهمين في معادلة الاصلاح ،قد تنسحب على مستقبل التنمية والاستقرار في المنطقة ، ودولاب الاصلاح في أي مجتمع ارضي لا يجوز له أن يتوقف ، وينبغي أن تعي الجهات المسؤولة أن كلفة الاصلاح اليوم زهيدة والفرصة اليوم متاحة دون تضحيات و الاستجابة لضغوط المجتمع أهون من الاستجابة لمحاكم الشعب ،وسنن الله في المتغطرسين مُشَاهدة ومتكررة، ولن تجد دول الخليج احرص ولا أصدق من شعوبها المسالمة ونخبها المتصالحة مع قيادتها بالترغيب لا بالترهيب ،لذا التضحية بهذه العلاقة الوطيدة انجرار نحو نفق مظلم الله أعلم بعواقبه . هذا المشهد الذي أراه و أعيشه يوجب علي أن أبينه وأنادي له ولو لم يعجب البعض ،لكنه قطعا سيكون مدخلا نحو التفاهم داخل بيتنا الخليجي دون حاجة لوسيط يفرض مطامعه أو خيار يفرض تضحياته .
 

 

الإسم    
الدولة  
البريد الإلكتروني       
تقييم الموضوع  
التعليق    
رمز التفعيل


 
 
 

د. سارة بنت عبدالمحسن