مشهد الصيام عند خالد!
د. مسفر القحطاني
زوار : 1848  -   7/2/2007
 
  خالد شاب فرنسي في التاسعة والعشرين من عمره، أطلق على نفسه هذا الاسم بعد أن دخل في الإسلام قبل سبع سنين.. قابلته قبل بضعة أسابيع في مدينة (شاتو شينو) جنوب باريس, وسألته عن سبب إسلامه, فأخبرني أنه كان يعيش في حي يعمل فيه بعض المسلمين المغاربة، فرآهم في أحد الأيام يعملون في الظهيرة، ولا يتناولون أي طعام أو شراب، فسألهم عن سبب هذا الامتناع، وهم في قمة التعب والعطش!!  فأجابوه بأنهم صائمون، ولا يجوز لهم تناول أي طعام قبل غروب الشمس، وذلك طيلة شهر رمضان من كل عام. فاندهش من جوابهم ودارت في ذهنه الكثير من الأسئلة التي حاصرهم بها حول هذا الصيام, ولكنه لم يجد عندهم من الإجابة ما يشفي لهيب نفسه وفطرته..
 يقول لي: لم أستطع أن أنسى هذا الوضع الذي رأيته من  أولئك العمال فهم مع صيامهم يعملون طوال النهار, ويخضعون بكل انقياد واستسلام لذلك الأمر الديني.. حاول خالد البحث عن إجابة شافية لكل تساؤلاته الملحّة فلم يجد الإجابة الكافية لأسئلته الثائرة؛ مما حفّزه للبحث عنها في الكتب التي تتحدث عن الإسلام وعن الصيام على وجه الخصوص, وبعد قراءة عدة كتب منها, وجد بعدها حاجةً في نفسه لا تقاوم, ورغبةً جامحة تدعوه للدخول في هذا الدين وإعلان إسلامه..
تعجبت كثيراً لمّا سمعت قصته وانبهاره العظيم بالصيام، وبدأت أقارن بين نظرته للصيام ونظرتنا له.. فالعبادة واحدة، وأحكامها ثابتة، وهي ذاتها لم تتبدل بالأزمنة ولا بالأمكنة..  ولكن كيف قلبت كيان هذا الشاب المسيحي الأعجمي، وقادته لتغيير مساره في الحياة بينما لا نجد لكثير منا  هذا الأثر في حياته أو ذاك التهذيب في نفسه ونحن نصوم رمضان أعواماً عديدة وأزمنة مديدة؟!
تلك العبادة الصامتة التي لا يُرى أثرها بوضوح على من تلبّس بها وامتثل لأمر الله تعالى بإتيانها. ومع ذلك فهي تحمل معاني ناطقة؛ بل وحكماً بالغة في انتصار النفس على شهواتها, وتمكّن الروح والإيمان من السيطرة على نوازع الهوى وحظوظه بتقوية الإرادة والعزيمة في النفوس, ولا ينكر أحد أن هذا الانتصار النفسي لو عاشته الأمة في أوقاتها الحاضرة لانتصرت في كل معاركها، وعلى جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية والحضارية. وهذا المعلم الفريد بقدر جهلنا له تكون منزلتنا بين الأمم، وعلى قدر ضعفنا في هذا الميدان تنكشف هزائمنا للعيان.. لهذه الحكمة جاء الأمر بالصيام في سلّم التشريع قبل الأمر بالجهاد، وقبل وجوب الزكاة؛ لأن الإنسان الذي يجود بروحه ويبذل ماله لله لا يمكنه تحقيق ذلك الفوز حتى يجتاز معركة النفس وينتصر عليها..
فالمعاني الروحية لا ينبغي فصلها عن أحكام الأداء البدني للعبادة؛ بل لا تكتمل عبودية القلب إلا بذلك الأثر المقاصدي لحقيقة العبادة وتجلياتها الإيمانية,  يقول الحق سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]   من يقرأ هذه الآية لا يصدق أن شرائح من المخاطبين بها هم أكثر من يملأ الأسواق، ويرفع الأسعار لجلب الأطعمة وتكديسها, وهم أكثر من يضيع الليالي في برامج فضائية وسهرات لاهية تُخص بها ليالي رمضان عن بقية ليالي العام!
لقد أدرك خالد الفرنسي أن رمضان نعمة عظيمة للمسلمين تزكّي أنفسهم, وتنمّي العطف على فقرائهم, وتصلح أبدانهم, وتهيئ لهم الظرف المناسب و الفرصة المثلى لمراجعة أنفسهم وتصحيح مسارهم والكشف عن حساباتهم السنوية.. فهل ننهل من فيوض فضائله وفوائده منهلاً عذباً لعطشنا الذي لم يروَ، وعلاجاً لأمراضنا التي لم تشفَ؟!
 

 

الإسم  
الدولة  
البريد الإلكتروني   
تقييم الموضوع  
التعليق  
رمز التفعيل


 
 
 

د.مسفر بن علي القحطاني