مات ابن عثيمين .. خبر ذكرته بعض وكالات الأنباء على استحياء ، ونشرته بعض الصحف دون مزيد اهتمام ، بل لقد تجاهلته كثير من الفضائيات العربية ، والمواقع المسماة إسلامية على شبكة الإنترنت ؟!
وكأن الذي مات شخص لا قيمة له ، ولا دور له ، وليس من رموز الإسلام المبرزين، ومرجعاً من مراجع الفتوى المعاصرة ! ولو أن الذي مات أحد الفنانين ، أو الرياضيين ، أو الأدباء الـ ... ، لرأينا كيف تكون التغطية ، والضجة المثارة ، والرثاء الذي يفوق مراثي الخنساء لأخيها صخر . !!؟
إنه إعلامنا العربي الذي يصر على تمجيد رموز الفساد والإفساد في مقابل تجاهل رموز التقوى والصلاح ، والدين . والتفنن في ترويج أساليب الضلال والإضلال لتنشئة أجيال هجين لا تعرف من الإسلام إلا اسمه ولا من الدين إلا رسمه .. تكره العلماء ، وتنفر من المشايخ وتنظر إليهم على أنهم نماذج للرجعية وسبباً للتأخر .
لن أتحدث عن ابن عثيمين الإنسان رحمه الله ، فكثيرون سبقوني بذلك .. لكني سأتحدث عن ابن عثيمين الرمز للعلماء ، والمرجعية للمسلمين ، والقدوة التي يحتاجها المسلمون في زمن كثرت فيه رموز الضلال وتجار الهوى .
بموته ، غاب رمز العالم الرباني ، ومرجعيه مهمة لأهل السنة والجماعة ، في وقت اشتدت فيه المحن ، وكثرت فيه الفتن ، وتجرأ فيه المغرضون على الخوض في غمار العلوم الشرعية دون علم أو دراية ، متصدرين للفتوى ، ضالين مضلين لكثير من الناس .
لقد كثرت الدعاوى إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه أمام من شاء ، ليفهم النصوص الشرعية وفق هواه ، وتوجهاته ومتطلبات مصالحه أو مصالح من يتحدث باسمهم ، وهي دعوة خطيرة شجعت كل من يعرف القراءة والكتابة وإن لم يجدها على ولوج هذا الباب بحجة ( نحن رجال وهم رجال ) ، و( الدين ملك للجميع ) ، و( النص الشرعــي قابل للتعددية القرائية ) وليس ملكاً لأحد ؛ بل لقد تطور الأمر إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير ،مما يعرفه المتابعون المتقصون لهذه التيارات التي تلبس ثوب العلم تارة ، وثوب الدين تارة ، وثوب الحضارة والتقدم تارة ، وتنتشي إن غاب علم من أعلام أهل السنـة والجماعة، الذين ترى فيهم سدوداً منيعة تملأ طريقهم بالعثرات ، وتفسد عليهم نشوة تبديل الإسلام الصحيح ، والإتيان بإسلام عصري يناسب الهوى ، ويتفق مع متطلبات الحضارة .
من هنا كان موت عالم من علماء أهل السنة والجماعة يعد كارثة خطيرة ، ومصيبة عظيمة لا لشخصه ـ وإن كان غالياً نحبه ونقدره ونعتز به ونحترمه ، فالموت سنة الله في خلقه لن يسلم منه بشرـ ولكن حرصاً على الإسلام ، وخوفاً على المسلمين من أن يستدرجهم أولئك الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ، وللأسف فقد كثروا في هذا الزمن كثرة كادت أن تلبس الحق بالباطل ، وتعمي على الناس دينهم .
إن موت علمائنا الواحد تلو الآخر في أزمان متقاربة ينبغي أن لا يشغلنا بالبكاء والرثاء ، وكثرة الكلام حتى تغيب الأيام حزنهم ، وتنسينا فقدهم ، بل يجب أن يكون مؤشراً لنا على أن زمن الاستكانة والتخاذل والإستسلام قد ولى ، وأن مهمة حماية الدين ، والدفاع عن حياضه وإنقاذ الأمة بات مسؤولية كل واحد منا ، فالناس تموت ، والرجال تموت ، والعلماء يموتون ، لكن الدين باق ببقاء كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتراث علمائنا المخلصين .
آخر الكلام ..
أعلم أن الجميع كان ينتظر مني أن أرثي شيخنا الرباني رحمه الله ، ولكني لا أحب الرثاء ، لقناعتي أن العلماء لا يموتون ، مادام علمهم باق ينهل من زلاله الظامئون ، ويقتدي بخطاهم التائهون ..
فالموت يطوي الأجساد ، لكنه لا يغيب العلم .
( إذا مات ابن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث ... أو علم ينتفع به ) .