بعد مرور أكثر من عقد على مواجهة التطرف في أكثر من مكان عربي وإسلامي , ومحاربة وجوده في المؤسسات التعليمية والمجتمعية , أطرح تساؤلاتي حول نتائج تلك المعركة بجولاتها المختلفة , وفي إمكانية نجاحنا في دحض شبهات المتطرفين والقضاء على جيوبهم المنتشرة في كثير من المدن والقرى والأرياف المهجورة ؟, وهل استطعنا أن نوجد الأنموذج الصحيح للتدين المعتدل ؟, وهل قلَّصت جهود الدعاة والعلماء دوائر المتعاطفين مع الفكر التكفيري ؟ وهل بعد هذه السنوات نستطيع أن نقول أننا حصّنّا عقول أجيالنا من أي خطر للتطرف قد يهدد مستقبل أجيالنا القادمة ؟ وهل لامسنا حقيقة التطرف الغائر في القناعات أم أن نقدنا يأتي كردود فعل لبعض الممارسات الجهادية التي تقع هنا أو هناك ؟.. أعتقد أن هذه التساؤلات وغيرها ضرورية لتقويم تجربتنا و تصحيح مفاهيمنا نحو الأخطاء المرتكبة والتي تعتبر طبيعية إذا ما قارناها مع حجم المواجهة وتعقّد مجالاتها وتشابك أسبابها , ولكن يبقى طرح الأسئلة والمراجعة حول هذا الموضوع مهم للغاية لنعرف موقعنا بالضبط وموقع المقابل كذلك ؛ لنفهم أبعاد الجولة القادمة والأسلحة المناسبة لها , ولعل أهم ما يجب مراجعته في إطار واجب المؤسسات هو أداء الأجهزة الإعلامية والتعليمية على وجه الخصوص في نشر الوعي الحضاري والفكر المعتدل والتسامح الأخوي بين أبناء المجتمع الواحد ,وذلك أن دورها شمولي لكل الأفراد وأثرها قوي في حس الإنسان ومشاعره وعقله اللاواعي بالدرجة الأولى, خصوصا أن معركتنا الحقيقية مع التطرف هي في ميدان الفكر والعلم و أسلحة الحرب فكرية بالدرجة الأولى وأدواتها معرفية وضحاياها ليس بأموات هامدين بل هم أحياء يعيشون بيننا , وقد يحملون تلك الفيروسات الخطيرة وهم بيننا ؛ لكننا لا نستطيع التنبؤ عن موعد تفاعلها أو انفجارها في الجسم والمجتمع لخمودها أحيانا وتلوّنها وقبوعها تحت السطح أحيانا أخرى, فالتركيز على المواجهة الأمنية ليس هو العلاج الحاسم لهذه الأزمة أو الخيار الوحيد لمواجهتها ؛ بل يعتبر حلا مؤقتا ومرحلة أولى للقضاء على الحالات الخطيرة التي استفحل فيها المرض ولم يعد من خيار إلا القطع والبتر للعضو التالف ، وليس للحالات الحاملة لتلك الفيروسات القاتلة والتي قد تستوجب إجراءات علاجية مستمرة ومكثفة لتأهيل المريض للعودة مرة أخرى لمجتمعه نقيا وصالحا , وأي تقاعس في المبادرة نحو المعالجة الفكرية قد يؤدي إلى انتشار الوباء داخل الجسد , وحينها تكون خيارات النجاة قليلة ونتائجها باهضة.
والحقيقة أن الواقع الإسلامي خلال الفترة الماضية حمل الكثير من التنظيرات وأنتج العديد من المؤتمرات وتشكلت لها لجان عدة , ولكن ثمرة هذه البرامج في التغيير وجدواها في الإصلاح لايزال متواضعا ودون الطموح في الوصول إلى قناعات مؤثرة وإيجابية تجعل الشباب المتحمس سواء كان متدينا أو غير ذلك يتفاعل معها ويؤمن بها ويتحصن من ضدها , وللأسف أن مراجعتنا وتقويمنا لبعض الشخصيات العلمية التي لها فتوى شاذة مخالفة لمقاصد التنزيل الرشيد للنص السديد مثل فتاوى بعض أئمة الدعوة المعاصرين في الردة والتكفير والجهاد ضد المخالفين وغيرها , أوالمؤلفات العقائدية المعاصرة التي اختارت بعض الآراء الفقهية والعقدية في هجر المبتدع ولو كانت بدعة يسيرة مبناها الجهل أوالعرف المتوارث كحال كثير من الشعوب الإسلامية المتأثرة بالتصوف أو التشيع , أو الكفر بالموالاة المطلقة لغير المسلم أو الحكم بالضلال والهلاك العام للاشاعرة والماتريدية , وغيرها من مراجعات هامة تحتاج جرأةً علمية من هيئات موثوقة لا تخضع لسلطة الجماهير أو الدول أو الإعلام المسّيس, و مناقشة المرجعيات العلمية المحرّضة – سواء بقصد أو بغير قصد - في أرائها ونقدها موضوعيا ينبغي أن لا يقابل بحساسية شديدة من الأتباع والمحبين , لأن الحق أحب إلينا والمعصوم هو الوحي ومبلغه صلى الله عليه وسلم , وكل علمائنا الكبار من أئمة المذاهب ومن دونهم لم يسلموا من الخطأ والنقد والمراجعة وتغيير الفتوى , فالاحترام لا يعني التقديس, والعصمة والنقد لا تعني النكوص والاتهام , وحتى لا يصبح الأمر منفلتا لغير المتأهلين أجد من المناسب أن يقوم بهذا الدور هيئة كبار العلماء أو المجامع الفقهية بتكليف خاص من المؤسسة الرسمية الحكومية ؛ لتوضيح الموقف الشرعي من الولاء والبراء كمفهوم للسلف يتفق مع مقاصد الشريعة ويجمع النصوص كلها ولا يجزّيء فهمها , كذلك تطبيقات الجهاد على العصر الحاضر والموقف من غير المسلمين والمخالفين لأهل السنة أفرادا ودولا وجهات , وتحقيق المعنى بدار الكفر والإسلام , وحقوق ولاة الأمر وحفظ نظام الأمة ورعاية مكتساباتها , فهذه المسائل وغيرها تعتبر أهم الإشكالات الفكرية التي يتسلح بها المتطرفون ويغضّ الطرف عنها المعتدلون , فهل نكسب المعركة الحقيقة في جولاتها الفكرية .. أما هو الإلف على عادتنا القديمة في ترك الأمور تمور حتى لا يبقى إلا الويل والثبور؟!