إصلاح القضاء .. رؤية مقاصدية
د. مسفر القحطاني
زوار : 1173  -   23/09/2009
 
 

وظيفة القضاء بين الناس أو النظر في مظالمهم من أعظم الرتب في إقامة الدين ، ومن أخطر الولايات في سياسة الدنيا بالدين . فالقضاء توقيع عن رب العالمين ، وصلاح للخلق على هدي سيد المرسلين ، والقضاة ملاذ للمظلومين وأمن للخائفين ، ولا سعادة وطمأنينة في الأرض إلا بالعدل في الحكم والقضاء ، وبهذا الناموس العظيم قامت السموات والأرض .
وخطة القضاء مبنية على تحقيق مقاصده وتحري أهدافه العليا ، وجُعِل للقاضي أمر تدبير الطرق الموصلة للعدل وتراتيب العمل بالحق ، ولأجل أن المقاصد هي الحاكمة على سياسة القضاء كان العمل بها والرجوع إليها مظنّة التطوير ، وحمايةً من الانحراف عند تزاحم العمل و تغاير الظروف وتكالب التحديات والمستجدات .
ولعلي أسترشد بما نصت عليه الدلائل الشرعية في توضيح تلك المقاصد في إصلاح هذا المرفق وتطوير أداءه الميداني ، من خلال الملامح التالية :
أولا : العدل والعلم أعظم مقاصد القضاء.
يقول ابن تيمية رحمه الله :" المقصود في ولاية القضاء تحري العدل بحسب الإمكان وهو مقصود العلماء " (الفتاوى 18/169).
وقال رحمه الله :" ولما كان العدل لا بد أن يتقدمه علم ؛ إذ من لايعلم لا يدري ما العدل ؟ والإنسان ظالم جاهل إلا من تاب عليه فصار عالما عادلا " (المرجع السابق).
ووسائل تحقيق العدل وبلوغ العلم في القضاء المعاصر قد تغير عما كان عليه سلف الأمة ، وذلك أن واقع الناس قديما كان محفوظا بالشرع و واعزهم القلبي مملوءً بالإيمان ، كما أن القضاة أغلبهم من العلماء المجتهدين أو المتأهلين ، فوسائل تقرير العدل قد اجتمعت في ذات العالم ولم يحتج إلا وسائل تحرٍ بالغة في الحجاج والدلائل ، أما اليوم فإن واقع الحياة المعاصرة قد تشابك وتعقد وانفتحت على المجتمعات صنوف الأنظمة والسلع والعادات والأفكار بسبب وسائل الاتصال و التواصل بين الشعوب والأفراد ، كما أن القاضي لم يحصل على التأهيل الفقهي اللازم لتغطية ذاك الاحتياج المستمر والمتغير ، لذلك فإن اعتبار الآليات المقترحة قد يسهم في تحقيق مقصد العلم والعدل:
ضبط الأحكام القضائية المتداولة والمتقاربة والتباين فيها مفسدة ؛ بمواد قانونية محددة ، مثل أحوال الأسرة في الطلاق والنفقة والحضانة وغيرها ، وبعض الدعاوى المالية في العقارات والتجارات الخارجية والتوثيقات العقدية .
رسم منهجية واضحة في مجال الاجتهادات القضائية ، كأن تحرر منهجية التكييف الفقهي للوقائع القضائية ويدرّب عليها القاضي ويُكسب الملَكَة اللازمة لها ، وتوضّح منهجية العمل فيما يشدّد فيه كصيانة الأعراض والأموال ، وما ييّسر فيه الحكم كقضايا الحدود و المخالفات الشخصية القائمة على الستر في أعراف الناس .
الشفافية والوضوح في العمل القضائي وإبراز الأحكام النافعة للناس دون ما فيه ضرر أو فضيحة ، وتعليم الناس حقوقهم وآليات المطالبة بها أو المدافعة عنها ،سواء كانوا رجالا أو نساء أو وافدين ، بكل ما يسهّل الوصول للمحكمة من تقنيات أو أنظمة عملية يسيرة التطبيق . 

ثانيا : القوة والأمانة من مقاصد تولي القضاء .
اشترط الفقهاء لمن يتولى القضاء شروطا عديدة كأن يكون بالغا عاقلا مسلما حرا عدلا فقيها ورعا (المغني 9/39) . ولو اعتبرنا النظر المقاصدي في تلك الشروط لوجدنا أن ولاية القضاء لا تقوم إلا بالقوة والأمانة في شخص القاضي ، كسائر الولايات العامة الأخرى ، فالقوة تشمل العلم وسلامة الحواس والأهلية اللازمة للتقصي والإدراك ، والأمانة تشمل الديانة والصلاح الشخصي والعدالة الأخلاقية ، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سار على هذا المنهج المقاصدي ورأى أن جامع صفات من يتولى هذه المناصب في الأمة أن يكون قويا أمينا وبذلك لم يشير إلى الشروط والصفات العديدة التي قررها الفقهاء رحمهم الله في كتبهم لمن يتولى أمرا للمسلمين , ويؤكد ابن تيميه منهجه في قوله :" الولاية لها ركنان : القوة والأمانة ، كما يقول الله تعالى :(إن خير من استأجرت القوي الأمين ) " (الفتاوى 28/253) . ثم يقرر ابن تيمية رحمه الله أن المقصد العام للقضاء والإمامة والوزارات المتنوعة الذي لا يجب أن يغيب على أحد :" وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (الفتاوى 28/66).
فالإطار العام للعمل القضائي هو تحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه العام المنصوص منه والمعقول . وهذا العمل هو الذي ينتج إصلاحا رائدا في المجتمعات البشرية .
لذلك فإن القضاء يسير جنبا إلى جنب مع كل مؤسسات المجتمع الإصلاحية ، فمهمة التغيير وقضايا الإصلاح جزء رئيس في العمل القضائي لا ينبغي حدّها بمجالات معينة إلا إذا كان تخصيصا خادما للمقصد العام من الإصلاح المجتمعي وتوزيعا للأدوار وتحقيقا للتكامل مع مؤسسات الدولة الأخرى .يضاف إلى مهمة القضاء أنه يقوم بدور الرقابة أيضا على تحقق الإصلاح الحقيقي في الواقع العملي ،وقد يحاسب ويعاقب من يخلّ بهذه المقاصد العليا من أصحاب الولايات أو غيرهم من أفراد المجتمع .

ثالثا: استصلاح المجتمع بحسب حاجاته الراهنة :
كما أن القضاء يحافظ على مقاصد المجتمع العليا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن له تطوير وسائله الإجرائية في تحقيق هذا المقصد بما يتناسب مع تغيرات المجتمع وحاجات أبنائه في ظل الظروف الراهنة . ومن ذلك :
تطوير وسائل العقوبات البديلة عن السجن والجلد في قضايا التعزيرات المتعلقة بالجنح السلوكية ، مثل أن المساهمة في خدمة مرافق المجتمع ، والمساعدة في الجمعيات الخيرية ، والعمل لساعات محددة في تنظيم و توزيع الإغاثات أو خدمة المواطنين في مجتمعه .
التوعية الدائمة بالواجبات الدينية والدنيوية ، والتحذير من المنكرات المتنوعة ، لأن منزلة القضاة وهيبتهم الاجتماعية تخول لهم مقام التوجيه الراشد للمجتمع ، وذلك لتوافر العلم الشرعي ،والمعرفة بالواقع الصحيح ، وإدراكهم لحاجات المجتمع من التوجيه في قضية أو التغاضي عنها لمصلحة مرجوة في المستقبل .
أن القضاة هم أهم المستشارين لأصحاب الولايات العامة ، ورأيهم معمول به في القضايا الإصلاحية العامة ، وهذا الدور يجعل من القضاة وقفا على هموم المجتمع ولا ينبغي تأطيرهم في مصالح خاصة أو أن يتدخلوا لنصرة فريق من المجتمع على آخرين ، أو يخضعوا لحسابات الأحزاب أو الطوائف داخل المجتمع ، لهذا كان مقام القضاة رفيع القدر عالي الشأن , جعلهم الله موقعين عن حكمه ومبلغين لشرعه في الأرض .

رابعا : تطوير أدوات التقاضي .. واجب الوقت المعاصر
   كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري قاضي الكوفة :"سلام عليك، أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك، أنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له، وسوِّ بين الناس بوجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف في عدلك. البينة على من أدعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً.ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه اليوم بعقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم، فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة.ثم أعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله عز وجل، وأشبهها بالحق. واجعل لمن ادعى حقاً غائباً، أو بينة؛ أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينته، أُخذت له بحق. وإلا سُجِّلت القضية عليه، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى.
المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله عز وجل تولى منكم السائر، ودرأ بالبينات والإيمان.
وإياك القلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن استقرار الحق في مواطن الحق، يعظم الله به الأجر، ويحسن عليه الذخر، فإنه من يصلح نيته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك يشنه الله، فما ظنك بثواب غير الله عز و جل في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام عليك " (سنن الدارقطني 4524)
هذه الرسالة الجامعة التي كتبها عمر إلى قاضيه يوصيه بجوامع الأثر النبوي والصلاح الأخروي ويقدم له دستور العدل القضائي ويرسم له مقاصد القضاء الشرعي . وهذه الرسالة تعتبر بحق من أعظم المواثيق الحقوقية التي يفتخر بها المسلمون على كل الأمم ، لما حوته من تقدم وريادة وتميز ونضج في الفهم والعمل القضائي ، هذه المآثر الحضارية هي بحق دليل عظمة الإسلام وتنظيماته العادلة وصلاحيته الممتدة عبر الأزمنة والأمكنة . ولعل هذا الإلهام العمري دفع الإمام ابن القيم لشرحها في أربع مجلدات باسم إعلام الموقعين عن رب العالمين ، واعتقد أن بهذه النصوص الفقهية والقضائية قد اجتمع للمسلمين من حيث التنظير أبدع دستور قضائي يفوق كل المدونات القضائية التي اقتبسها المسلمون في أوقات الانحطاط الفكري والسياسي خلال القرن الماضي، فكيف لو ضممنا لهذا المصنف الرائد ما سطّره ابن فرحون المالكي في كتابه العظيم (تبصرة الحكام) أو (السير الكبير) للشيباني أو (أدب القضاء) لابن ابي الدم .وغيرها من مصنفات الإبداع العقلي والإصلاح الإداري كعلامة فارقة للقضاء الإسلامي بالمقارنة بالنظم العالمية.
وبالعودة إلى واقعنا المعاصر خصوصا حالة القضاء في البلاد الإسلامية ،فإنه من أهم المرافق الحيوية لأمن الناس واستقرارهم ، وهذا متفق عليه عند جميع الأمم ، ولكن دوره الريادي في إقامة العدل والإصلاح بدا ضامرا مهمّشا يدور في فلك المعاملات الرسمية ولا تدور في فلكه ، و يساير ويدقق صحة الإجراءات القانونية وفحص التوثيقات المدنية ولا يؤسسها ويبتكر في تأصيلها، مما يتطلب قاضيا ناقلا لا مبدعا ،ومقلدا لا فقيها مجتهدا، ووسيطا بين الدوائر الرسمية لا سلطة مستقلة تحكم وتحاسب غيرها من السلطات والإدارات ، وللإسف ومع تطوّر المجتمعات وتوسعها وحاجتها للتقاضي العادل ؛ لايزال القضاء في كثير من تلك المجتمعات يراوح مكانه بل وتتقلص دوائره يوما بعد يوم ، أما صورته النمطية في أذهان الشعوب فقد رسمتها الأفلام والمسلسلات والأخبار الصحفية ، وأبرزت صورا شاذة وباهته لمنتفعين ومرتشين و أغبياء لا حيلة لهم ، وهذه –لاشك- لاتمثّل عموم القضاة ولا تعكس واقعهم الحقيقي .و لكن يبقى عبء التغيير وإصلاح القضاء وتطويره ومواكبته للمستجدات مهمة القضاة أنفسهم قبل غيرهم . فهم بالرغم من كل المحاولات التهميشيه لنفوذهم يستطيعون متى أرادوا وصدقوا وتحملوا ثقل التغيير ؛أن يعودوا إلى مركز التأثير الحقيقي ويؤسسوا نواة الإصلاح المنشود لتدور في فلكهم أنظمة المجتمع كلها ، أنها مرحلة حرجة جدا في العمل القضائي إما يكونوا وإما لا يكونوا !!
قال ابْنُ الْمُنَاصِفِ فِي " تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ " – كما نقله ابن فرحون المالكي - :"وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ أَنْ يُعَالِجَ نَفْسَهُ وَيَجْتَهِدَ فِي صَلَاحِ حَالِهِ ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجْعَلُهُ مِنْ بَالِهِ فَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى أَدَبِ الشَّرْعِ وَحِفْظِ الْمُرُوءَةِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَيَتَوَقَّى مَا يَشِينُهُ فِي دِينِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَعَقْلِهِ ، وَيَحُطُّهُ عَنْ مَنْصِبِهِ وَهِمَّتِهِ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لَأَنْ يُنْظَرَ إلَيْهِ وَيُقْتَدَى بِهِ ، وَلَيْسَ يَسَعُهُ فِي ذَلِكَ مَا يَسَعُ غَيْرَهُ ، فَالْعُيُونُ إلَيْهِ مَصْرُوفَةٌ وَنُفُوسُ الْخَاصَّةِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَوْقُوفَةٌ ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ بَعْدَ الْحُصُولِ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهِ بِرَغْبَةٍ فِيهِ وَطَرَحَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ أَوْ اُمْتُحِنَ بِهِ وَعُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَزْهَدَ فِي طَلَبِ الْحَظِّ الْأَخْلَصِ وَالسَّنَنِ الْأَصْلَحِ ، فَرُبَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِحْقَارُ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَنْصِبَ ، أَوْ زَهَّدَهُ فِي أَهْلِ عَصْرِهِ وَيَأَّسَهُ مِنْ اسْتِصْلَاحِهِمْ وَاسْتِبْعَادِ مَا يَرْجُو مِنْ عِلَاجِ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِهِ أَيْضًا لِمَا يَرَاهُ مِنْ عُمُومِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْخَيْرِ ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَسْعَ فِي اسْتِصْلَاحِ أَهْلِ عَصْرِهِ فَقَدْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ وَأَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ وَيَئِسَ مِنْ تَدَارُكِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالرَّحْمَةِ ، فَيُلْجِئُهُ ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ يَمْشِي عَلَى مَشْيِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَلَا يُبَالِي بِأَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ فِيهِ لِاعْتِقَادِهِ فَسَادَ الْحَالِ ، وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ مُصِيبَةِ الْقَضَاءِ وَأَدْهَى مِنْ كُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْ الْبَلَاءِ ، فَلْيَأْخُذْ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهَدَةِ وَيَسْعَى فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَيَطْلُبُهُ وَيَسْتَصْلِحُ النَّاسَ بِالرَّهْبَةِ وَالرَّغْبَةِ وَيُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِّ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ يَجْعَلُ لَهُ فِي وِلَايَتِهِ وَجَمِيعِ أُمُورِهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا" (تبصرة الحكام 1/59)

 

 

الإسم    
الدولة  
البريد الإلكتروني       
تقييم الموضوع  
التعليق    
رمز التفعيل


 
 
 

د.مسفر بن علي القحطاني