خلال الثلاثة
عقود الماضية ،كان خطاب الصحوة الإسلامية ،خطابا وعظيا تذكيريا جماهيريا يستهدف
التأثير المباشر على تطويع الخلق للخالق سبحانه من خلال حديث الواجبات والمهمات
العظمى التي غابت أو غيّبت عن المجتمعات الإسلامية طيلة القرن الماضي ، و من حيث
الفقه الأولوي كانت تلك الخطوة الصحوية ضرورة لاستعادة هوية المجتمع من الذوبان في
المشاريع الثقافية والاستعمارية الشرقية أو الغربية، كما أن حجم النجاح و سرعة
التأثير المباشر أغرى قادة المنابر الصحوية للاستمرار على أدبيات الخطاب دون تغيير
وتجديد سوى في بعض الوسائل الدعوية ، وبالرغم من أهمية ما سبق ؛ إلا أن الخطاب
الصحوي كان في أمس الحاجة للتجديد خصوصا بعد مرحلة الانفتاح وانكسار السدود وتلاشي
الحدود بين المجتمعات و ثقافاتها ،وانكشاف المجتمعات الإسلامية لحمّى المقارنات
والمقابلات بيننا وبين الآخر ، هذه المبررات اقتضت بداهةً أن يكون هناك تجديد
ومواكبة ومحافظة على هوية المجتمع من الإرباك العولمي ، وهذا ما حصل فعلا ولكن في
الأطر الشكلية والوسائلية وبقي المضمون يحتاج إلى تجديد ورسم جديد لأولويات الخطاب
وتعميقه في نفوس الأفراد ليس بالأداة فقط ؛ بل من خلال الإقناع و الإبداع والمنافسة
الحضارية وتقديم المشروعات المجتمعية والوصول إلى كافة الشرائح دون النخب الشبابية
، بالإضافة إلى التنوع في حلول الاحتياجات الواقعة التي يتطلبها طفل اليوم وشاب
اليوم ومرأة اليوم وغيرهم .
هذا التحدي شكّل حالات من الذهول في أوساط الصحوة ،
استمرت عدة سنوات كان بعضها يحمل سيوف القمع لكل تغييرٍ أو جديدٍ داهم المجتمع ،
وهناك من حمل معاول الهدم لكل ما هو ثابت وعتيد من الثوابت والكليات بحجة المواكبة
السائلة في قوالب الجديد مهما كان نوعه ومصدره ، وحدث بين تلك السيوف والمعاول
حروبا ضروسا لم يكن هناك ما يبررها سوى ضبابية النظر و سطحية الفكر و حب المواجهة
لو بافتعال عدوٍ وهمي يثير الجموع ويشبعهم بالانتقام من المخالف.
هذا التوصيف
الشخصي للحالة الماضية للخطاب الصحوي هدفي من إيراده أن يشكل لنا وعيا مستقبليا
للقادم من المتغيرات ، والبحث عن الحلول والمعالجات قبل مداهمتها لنا على حين غفلة
من الصمود ، وأن نستفيد من التجربة الماضية بتقليل المواجهات البينية إلى تكثيف
البرامج البديلة وتشجيع العلاجات التحصينية ، ومجاوزة كل من يريد إشغالنا بالردود ،
أو يوهمنا بالغيرة الباردة على منجزات الماضي .
وبين الماضي والمستقبل هناك واقع
يحصل اليوم في الوسط الصحوي بإثارة الوعي لمتطلبات النهضة والبحث عن قيم التحضر
ومحاولة برمجة تلك الرؤى إلى مشاريع عملية تزهر تنمية و تقدما في عدد من المناحي
المجتمعية ، ولعل مؤتمر النهضة الأول الذي رعاه الشيخ سلمان العودة ، دافعا نحو
البناء النهضوي والتشاغل بهذا الهم الدافع بإذن الله نحو التجديد البنّاء لجيل جديد
في البناء.
أما بالنسبة لتمرد هذا الجيل على التقليدية داخل الفكر الحركي ،
فيمكن أن يكون نوع من متطلبات المواجهة لعصر الانفتاح الذي شكّل لدى جيل الشباب
أسئلة ضرورية عن موقعهم في عالم اليوم ، عن كونهم أفضل الناس ولكنهم في قاع
المجتمعات ؟! يتساءلون عن جدوى الماضي الزاهي في مقابل خمول آني ؟ وعادة الشباب
الفاعل عندما يقوم بالمقارنة مع تقدم معين في مجتمع ما ؛ يحاول أن يتنافس معه دون
أن يغرق في التنظيرات عن الأسباب والتوصيف فهو يريد الحلول وبشكل عاجل ، مما يصوّر
عجلته تلك أنها تمرد على الصحوة ، وكلما تأخرت الصحوة عن تجديد خطابها و برمجة
مشاريعها العملية وإلا هناك جيل سيتشكل قريبا يحمل روح المبادرة ويذر الأشياخ وراءه
، وملامحه ليست ببعيدة خصوصا في المملكة .
ومن أمثلة ذلك انخراط أعداد كبيرة من
الشباب ومن الجنسين في تجمعات تطوعية تنموية تغييرية بعيدة عن الخطابات المنبرية
والتوجيهات المثالية، وتنافس منجزاتها القصيرة تاريخ طويل لبعض التجمعات الصحوية ،
وهذه الفرق التطوعية بدأت ترسم طريق النهضة برؤيتها الخاصة ، التي لا تُستغرب لجيل
واسع من الشباب يريد العمل ولو لم تنطبق عليه مواصفات الشكل الديني .