|
|
جدلية النص والواقع وأثرها في تكوين العقل الفقهي المعاصر
الدكتور مسفر القحطاني
|
زوار :
1258 -
6/1/2012
|
|
|
كان لجدلية الواقع المتغير و ثبوت النص المقدس ، معاركهما الطويلة وأحداثهما العنيفة ، ما أدى إلى حدوث عدد من الإنشقاقات و التباينات في المرجعيات الدينية ذات البُعد الغيبي ، وبالتالي الإستجابة القسرية و أحيانا الطوعية للواقع أو لسلطة النص، و غالبا ما تكون السيطرة لصالح الواقع وضروراته المصلحية خصوصا عند تباعد الزمان عن عصر نزول النص السماوي وغلبة الأهواء السياسية على وجه الخصوص.
تلك الجدلية برزت بشكل واضح في نصوص العهد القديم والجديد ؛كشاهد تاريخي لا يزال حضوره القوي يحدث حراكا دينيا في الأوساط المسيحية حتى اليوم ، فالنص المقدس تعرّض لتغيرات هائلة وتفسيرات متباينة وترجمات خرجت عن معاني الالفاظ إلى معاني مغايرة تُناقض طبيعة اللغة التي كُتب بها ذلك النص ، حصل ذلك استجابةً للاحتياجات الواقعية لأصحاب الحق الالهي كما تزعم بذلك الكنيسة البابوية ،أو لمصالح السلطات السياسية و نفوذ أصحاب المال والإقطاع ، وفي كل عصر وجيل كان يتجدد ذلك الإشكال مع ما يحمل معه من تحريفات و تغيرات تبعد ذلك النص عن معناه الأصلي الذي نزل به ، فالإشكالات و التجاوزات التأويلية للكتاب المقدس لم ينجو الراصدين لها والمهتمين بدراستها من قمع وإرهاب مارسته الكنيسة على اختلاف مدارسها ضد حركة النقد التي قادها عدد من مفكري عصور النهضة الأوروبية ، خصوصا (بيار بايل) و (سبينوزا) و ( ريتشارد سيمون) ,وقبلهم (مارتن لوثر ) على اختلاف طبيعة التناول لكل منهم. [انظر على سبيل المثال: كتاب أزمة الوعي الاوروبي لبول هازار 149-290] ، تلك المحاولات الإصلاحية كانت ضرورية لوقف الانحرافات الهائلة بين عصر التنزيل الأول و وقائع التأويل اللاحقة، فقد تجاوزات ثوابت الديانة واحتكرت الفهم والإبانة، وبالتالي صادرت حرية الرأي والتعبير بزعم حفظ المقدس الذي تم تحريفه خلال قرون طويلة، لينتهي به المطاف معزولا مبعدا عن واقع الحياة مفصولا عن مؤسسات الدولة المعاصرة .
وفي محيطنا الإسلامي تتكرر وقائع هذه الجدلية بصور متنوعة، فالقرآن الكريم وإن كان قد حفظه الله من التبديل والتحريف ، إلا أن بعض الفرق الباطنية والخوارج مارست احتكارا شاذا في تأوليه بما لا يتفق مع معناه الظاهر المتبادر في لغة العرب ، و حتى مدركات العقول السليمة ، وكثيرا ما يتم التفسير بعيدا عن إعمال السنة النبوية التوضيحية التي تتوافق مع المعنى الأصيل للآية ،و تبيّن كيفية التطبيق لمراده ، فهي بلاشك أولى من أي تأويل لاحق مخالف ، لمن لم يشهد التنزيل ولم يعرف من لغة العرب مرامي التأويل. كل ذلك الشذود التأويلي مرده إخضاع شمولية النص العام؛ للواقع المنفعي الخاص وإقصاء مقاصد الأحكام الثابتة لوقائع سياسية متغير.
و من المسلَّم به أن تاثيرات الواقع على فهم النص وتأويله حقيقة موجودة لا ينكرها أحد،و اجتهادات الفقهاء ومنجزاتهم التصنيفية على اختلاف مذاهبهم دليل على تنوع النظر في تأويل النص بما يخدم الواقع ويعالج متغيراته، فالفقيه أبن مجتمعه ومتفاعل مع قضاياه ، ويحاول مواكبة احتياجات أفراده بالفتاوى و الإرشادات اللازمة ، ليبقى الواقع تحت سلطة الفقيه بقبول الموافق المشروع ورد المخالف الممنوع ، ولكن هذا التداخل بين سلطتي النص والواقع أثار عدداً من التساؤلات، حول الفاصل بين المقبول والممنوع من هيمنة الواقع على النص ومقدار التأثير المسموح به ، ولعلي من خلال بعض التأملات المقاصدية أن نرسم حدود التباين والتكامل بين الواقع و النص، في النقاط التالية :
أولا: النظر الفقهي للواقع له أحوال عدة قد تكون من خلال فهم العادات المجتمعية التي فرضت نفسها تبعا لطبيعة النمو المدني و تقلبات الزمان على الناس ،فيحاول الفقيه تلمس تلك المتغيرات وتوظيف حدوثها ومؤثراتها ضمن السياق الفقهي ،فلا يجمد على المنقول في كتب أشياخ مذهبه لاختلاف العصر والحال ، ويدخل هذا في كثير من احكام التعزيرات وطبيعة البينات عند التقاضي ، وصيغ الأيمان والنذور والعقود ، و أحكام العلاقات الدولية و الحلول الاقتصادية وغيرها، وهذا ما جعل الامام القرافي يقرر مبدأ إعمال الواقع في النصوص الاجتهادية ذات التعدد التأويلي في معناها كما في قوله:" ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك؛بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجرهِ على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده ، وأجره عليه وافته به دون عرف بلدك ، ودون المقرر في كتبك ، فهذا هو الحق الواضح ، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين ، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين" [الفروق 1/386].كما أن النظر الفقهي للواقع يُعنى بحال المكلف ومدى تقبله للحكم الاجتهادي، لذلك يُراعى المريض والمسافر و الشيخ الكبير والحالات الاستثنائية للمرأة في حملها وحيضها ونفاسها، كما تُراعى ظروف الأفراد وطبائعهم المختلفة ، وهذا ما يفسر تعدّد إجابات النبي صلى الله عليه وسلم للسؤال الواحد ، من قِبل عدد من السائلين المختلفين كما في جوابه المتنوع على " أي الأعمال افضل؟" و" أوصني" وغيرها ،و مثل اعتبار حال الفقر كموجب في عدم تطبيق حد السرقة كما فعل عمر رضي الله عنه في عام الرمادة لعلة الاحتياج العام للطعام والاضطرار لسرقته من أجل قوام الحياة، هذه الدلائل توضح ضرورة فهم الواقع عندالاجتهاد في تأويل النص الظني المحتمل لتعدد الأفهام ،أما القطعي فغالبا ما ياتي على شكل قاعدة صالحة للتطبيق مهما تغيرت الظروف والأحوال كالأمر بالصلاة أو الزكاة أو الصيام وأداء الأمانة وصدق الحديث والحجاب،أما تفاصيل الأداء فله متغيراته الخاضعة لظروف الأعيان.
ثانيا: ويشمل التيار النقيض الذي يجعل الواقع أساسا للنظر والاجتهاد ، و يدعو لتأويل النص مهما كانت قطعية دلالته ليتسق مع الواقع المتغير مهما كانت تقلباته ، ومن أبرز منظري هذا التيار الدكتور نصر أبو زيد فمن أقواله :" فالواقع هو الأصل ، ولا سبيل لإهداره ، من الواقع تكوّن النص ، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، ومن خلال حركته بفعالية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولا ، والواقع أخيرا" [ انظر: نقد الخطاب الديني ص 106] ، كذلك يقول الدكتور حسن حنفي :" فإذا كان ترتيب القدماء تنازليا من النص إلى الواقع ، فإن ترتيب المحدثين تصاعديا من الواقع إلى النص . فالعقل بقدرته على الإستدلال هو الأصل في التشريع للواقع المعاش " [ انظر : من النص إلى الواقع 2/102].
وهذا الطرح على ما فيه من أهمية إلا أنه خطير في إخضاع النص لواقع متقلب ومتنوع و يتماهى مع ميول الناس ومصالحهم وأهوائهم المتباينة، وهنا سيفقد أي نص فاعليته في التكليف مدام أنه يتقولب وفق أي وعاء يقع فيه.والشريعة في مقاصدها الكلية قائمة على التحديد والضبط –كما قال الطاهر بن عاشور – وكذلك جاءت لإخراج العبد من داعية هواه ليكون عبدا لله اختيارا كما هو عبدا لله اضطرارا –كما يقول الشاطبي-.
ثالثا: تغير الفتوى المعاصرة بسبب ضغوط المستفتين و تبعا لأهوائهم في المنع أو التحليل ، وأحيانا يكون تغير الفتوى خوفا من أفول نجم الفقيه الفضائي أو انفضاض الناس عنه ،وهذا التصرف القائم على التحولات المريبة دون بيان المقصود أو ذكر التعليلات الواضحة لاختلاف الرأي ، هو نوع من التلفيق الفاضح والتلاعب السافر بدين الناس وعقولهم ، يوضّح الإمام القرافي هذه الحالة بقوله :"لا ينبغي للمفتي : إذا كان في المسألة قولان : أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف ؛ أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين ، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى و إجلاله وتقواه ، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين " [الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 250] أما لو كان التغير في الفتوى بسبب تصوَّر جديد للمسألة أو وزيادة علم بحقيقتها، فهذا الانتقال له مبرراته المقبولة والمعقولة، و قد يحدث الخلل أيضا؛ في الجمود على السابق من الأراء والفتاوى بحيث تبين للفقيه تغير الواقع الأول ،وبالتالي اختلاف مناط الحكم ، مما يجعل العمل بذلك الحكم سببا للعسر والشدة ، وتصبح الفتوى السابقة غير مجدية لذهاب كل مبرراتها الشرعية ومقاصدها المصلحية . وقد يحدث التغيّر في الفتوى بسبب تخويف السلطة السياسية للمفتي بمآلات موهومة يتفنن السياسي بحيله التصويرية لإيقاع الفقيه في فخ التنازل والخضوع للواقع المرهون بمصلحة النظام السياسي، فيشرعن الفقيه حكما ملزما لواقع مسيس مغلوط لم يتثبت منه ، ولم يتفحص دلالاته ومآلاته .
هذه الحالات ليست بدعا من القول بل هي حقائق مشاهدة ، بعضها برّر للاستبداد السلطوي وانتهاك الحريات المكفولة و الغصب من مقدرات الأمة ومكتسباتها ،بحجة مصلحة الحاكم ومتطلبات الطاعة الملزمة لولاة الأمر ،دون التوضيح بأن تلك الطاعات خاضعة لطاعة الله تعالى ومقيدة بما فيه مصلحة ظاهرة وعامة وغالبة في الوقوع ، و بعض تلك الفتاوى شرّعت للإرهاب الفكري في منع الكثير من المباحات كما في مجالات عمل المرأة ومشاركاتها المجتمعية ، وآخرى ميّعت الثوابت من خلال تحليل الربا والخمر و تجويز الفطر في رمضان.كل ما سبق من إشكاليات وتجاوزات كان منطلقه ضغوط الواقع التي تجبر الفقيه أو المفتي أن يتنازل عن الفهم الظاهر للنص بغية التوافق مع واقع نفعي وفردي يتواطئ مع أصحاب النفوذ من جمهور وصناع قرار و رجال مال و أعمال.
وتبقى جدلية النص والواقع مجالا لإثراء الفقه و أحيانا لإقصاء الحق ،ولا نستطيع التخفيف من آثارها الخطيرة إلا بتمكين العدول الراسخين من الفقهاء والمفتين ، ومأسسة الفتوى الجماعية المخفِّفة من غلواء الجنوح الفردي لبعض المتجاوزين .
|
|
|
|
|
|
|