|
|
الفقه العقدي ..وإشكالية تداخل سعة الاجتهاد بصلابة الاعتقاد
د. مسفر بن علي القحطاني
|
زوار :
1632 -
9/3/2013
|
|
|
الفقه العقدي ..وإشكالية تداخل سعة الاجتهاد بصلابة الاعتقاد
مسفر بن علي القحطاني
عقيدة المسلمين على مرّ العصور كانت ظاهرةً جليةً في توحيدها لله تعالى وسهلة و واضحةً في عرضها وتقريرها لأصول الاعتقاد ،لأنها الحق الجلي والمطلب الرئيس للنجاة يوم القيامة ، لذلك كانت أقرب للفطرة و أوفق للعقل و أدعى للإيمان ، هذه الأوصاف هي الأليق بالعقيدة التي يعتنقها الخلق على إختلاف أعمارهم ومعارفهم ومشاربهم وأجناسهم ، وأي مؤمن يعتقد ذلك في دينه ومقدسه في الغالب، وخروج النسق العقدي نحو تفاصيل علم الكلام وغموضه أو مجادلة أهل الفرق والملل وخصومهم ؛جعل علم العقيدة شأن الخواص من العلماء والفلاسفة ،وألزم مقرري علم الاعتقاد عند الشرح والتصنيف أن يدخلوا فيه من المسائل والقضايا التفصيلية مايحوّل الوضوح العقدي إلى غموض كلامي ميتافيزيقي، وما تحصل به النجاة من العقيدة يستلزم تقريرات لا تتنهي من المسائل التي دخلها الخلاف مثل دقائق الصفات الإلهية وخلق القرآن ورؤية الله تعالى في الدنيا والتوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام بعد مماته والتبرك بآثاره والدجال والمهدي وطاعة ولي الأمر وسيادة الشريعة في ظل الديمقراطيات المعاصرة وغيرها من مسائل ،ثم وصل الأمر أن يُطلب من العامي في بعض المذاهب إظهار معتقده في الفرق الكلامية وهو لم يشهد سجالها ولا يعرف كنهها ،فيضطرب معتقده في تفاصيل قد تؤثر في إيمانه واطمئنانه.
لذلك تناول العقيدة وفق تقرير علمائها المتأخرين يختلف عن تناولها وفق التقرير القرآني والبيان النبوي المجسّد لحقيقة التوحيد والحّفذر من الشرك،وهذا الفرق الكبير في التناول جاء بسبب طريقة تناول الدفاع عن حياض العقيدة من خصومها بتطويل وتصعيب طريق الوصول لعقيدة النجاة وليس إلى تذليله وتيسيره.
هذا الخلاف والشغب الكلامي على العقيدة أدى إلى تكاثر علماء الاعتقاد وتسيدهم عدة مجالات تخصصية تتناول العقيدة وحمايتها ومدافعة الفرق المخالفة لها ؛ما أدى إلى حدوث مجال معرفي شامل يقرأ الشريعة وفق المنهج العقدي ويناقش المستجدات بروح الجدل الكلامي ويمنح المجادل في العقيدة طوباوية ومثالية تمنحه تصنيفا للخلق باعتبار مآلهم الأخروي وليس عملهم الدنيوي ، فكانت النتيجة فتاوى توحيدية وفقه عقائدي ،أثمر في مشهدنا الإسلامي الكثير من الإشكاليات السلبية من وجهة نظري ،وأهمها :
أولا:مناقشة الخلاف الفقهي على أساس معتقد قائليه ،حتى لو كانت مسائل فقهية عملية ،مما يجعل المخالف في إحدى دائرتين أمام خصمه إما دخوله دائرة البدعة أو دائرة الكفر ،ظهر ذلك جليا في مسائل الخلاف بين الاشاعرة والمعتزلة في قضايا التكليف والجبر على الأفعال و المصالح العقلية وفق قاعدة التحسين والتقبيح،ولم ينته الأمر في الأجيال السالفة ؛بل انتقل في عصرنا الحاضر في مسائل عديدة مثل؛ النصح لولاة الأمر هل هو في العلن ام في السر ؟ وما يتعلق بمستجدات التحولات الديمقراطية في الوطن العربي، ماأدى إلى تفرق عقدي و رمي المخالف بالبدعة أو الكفر نتيجة ذلك الخلاف الفقهي في أصله . كما يلحظ أن بعض الفقهاء إذا أراد إقصاء مخالفيه وتعظيم قوله ؛ربط خلافه وأياهم ضمن المجال العقدي ليكون أدعى في ممارسة التحذير من مخالفيه وتسويغ الإتهام لهم، وبالتالي تهميش القول الآخر إلى قول مضاد للأهل السنة أو السلف.
ثانيا: تَجذّر فكرة إنقسام الدين إلى اصول وفروع عند الحكم على المخالف ،فهذا من أسباب اشكالية التداخل بين الفقهي والعقدي ،والظني والقطعي،والسعة والضيق ، فبعض الفقهاء والمتكلمين جعل العقيدة أصولا كلها ،والفقه فروعا كله، وهذا التقسيم من حيث الأصل سائغ ومقبول إلى حدٍما،ولكن من حيث البناء عليه تأثيما وتكفيرا لمن خالف في مسائل العقيدة أيا كانت درجتها هو من الأخطاء التي حذر منها بعض السلف، ومن أشهر من أظهر موقفه في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال في نص نفيس :"فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان ، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية , هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام ، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها .فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع , فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان , ولا أئمة الإسلام , وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع , وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم , وهو تفريق متناقض , فانه يقال لمن فرق بين النوعين : ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها ؟ , وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع ؟ , فان قال : مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل , قيل له : فتنازع الناس في محمد هل رأى ربه أم لا, وفى أن عثمان أفضل من على أم على أفضل , وفى كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية والعلمية ولا كفر فيها بالاتفاق". [ مجموع الفتاوى 23/346 ] . فالمجتهد عند ابن تيمية لا يحكم بكفره ولا بإثمه ما دام قد بذل جهده في الاجتهاد ولا فرق في ذلك بين ما يسمى أصول دين أو فروعه أو ما يسمى مسائل خبرية أو مسائل عملية , ثم نبه على أن السلف لم يكونوا يتعاملون في مسائل التصويب بناءا على تقسيم الدين إلى أصول وفروع كما كان يفعل المتكلمون ,والإشكال أن القصور في فهم منهج السلف أورد المجتمعات الإسلامية الكثير من البغي والعدوان عند الخلاف ،لذلك المجتهد الذي بذل وسعه في حكم مسألة ولوكانت في مجال الاعتقاد لا يُسارع باتهامه وتأثيمه في شخصه، بينما مجال مناقشة الأفكار وتخطيئتها هو ميدان الحجج والبراهين، وهذا أمره واسع ومقبول، كما أن ربط الخلاف بمجاله العلمي والبرهاني دون تجاوزه إلى مآل الشخص الأخروي أمر متعين وجوهري في منهج البحث والاستدلال، وللإمام الشاطبي توضيح في هذه المسألة في قوله: "إن هذه الفِرَق إنما تصير فرقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئية من الجزئيات إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشا عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا و إنما تنشأ المخالفة في الأمور الكلية " [الاعتصام: 2/ 200.201] واستيعاب هذه القاعدة قد يخفف لدى بعض مشتغلي العقيدة عِظم دائرة القطعيات التي تسوغ لهم الإنكار والتشديد على غيرهم،ولعل ما قاله الشيخ عبد الرحمن السعدي يصب في أهمية التأكيد على هذا المنحى التقريري في منهج السلف الصالح عندما قال: " إن المتأولين من أهل القبلة الّذين ضلوا وأخطأوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقًا، والتزموا ذلك لكنهم أخطأوا في بعض المسائل الخبرية أو العلمية، فهؤلاء قد دلّ الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدّين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصّحابة والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك" [الإرشاد في معرفة الأحكام، مكتبة المعارف ص: 207]
ثالثا : إشكالية تأثير الدرس العقدي على الفقهي من حيث غلبة الحسم والجزم في التحريم بشكل أكبر حتى لولم يظهر دليل التحريم بنصه، أو في ذكر الوجوب بشكل أقل حتى لو لم يظهر دليل اللزوم بعينه ، فالمشتغل بمسائل الإعتقاد يميل إلى حسم خلافه بالتحريم إذا كان في المسألة نهي دون أن يتحرج في إطلاق الحكم المانع بصورة جازمة لا تقبل التخفيف لإي خلاف وعدم التورع في ذكر التحريم المغلّظ في المتشابه من النصوص،بينما سلف الأمة كانوا يتورعون في اطلاق التحريم مع استقراره في فقههم ولكن لخوفهم من التألي على الله تعالى بالجزم بالتحريم ، لهذا كانوا يستبدلون لفظة الحرام بالكراهة أو لا يعجبهم أوغيرها من الالفاظ ، وقد نقل ذلك عن الإمام أحمد وغيره من السلف. [ انظر: الفروع لابن مفلح 1/66 ،اعلام الموقعين 1/39-41 ].
هذه الإشكاليات السابقة وغيرها أعتقد أنها تسوّغ لنا ضرورة مراجعة وفحص خطابنا الفقهي وتداخل العقدي معه ،وإعادة الاعتبار لمنهجية النظر في الاجتهاد بين ماهو كلي وأصل ثابت في الشرع وبين ما يقبل النظر ويسع فيه الخلاف و يتعدد فيه الرأي ، وهذا سيسمح بوجود مناخ فقهي معتدل ومتسامح لايفرض توجهاته على الجميع كقوالب جامدة تضطر البعض إما للمواجهة أو الانسحاب وفي كلا الأمرين سنفقد ثراءً علميا وعطاءً معرفيا قد يسهم في علاج الكثير من معضلاتنا الحضارية .
|
|
|
|
|
|
|